ما زالت محاولات وزارة الأوقاف، تسير على قدم وساق لتنقية الخطاب الدينى، والقضاء على الفكر المتطرف، تلك المحاولات التى يتمثل أبرزها وأهمها فى إبعاد المتطرفين وغير الأزهريين عن اعتلاء المساجد، خصوصًا من الدعوة السلفية، وقصر الخطابة على أئمة الأوقاف والأزهريين. وبالطبع لم يكن اختيار الوزارة لأئمتها عبثًا أو عشوائيًا، لكنهم خضعوا لاختبارات صارمة فى العلوم الفقهية والشرعية، وقراءة القرآن، والحديث.. إلخ، وكل ذلك جهد محمود من الوزارة، لكن تبقى كل هذه الجهود فى مهب الريح، ولا تؤتى ثمارها، إذا لم تكن الوزارة تقوم بإجراء اختبارات الإلقاء والأداء ضمن هذه الاختبارات. وأعتقد، وذلك من خلال ما نراه ونسمعه من أئمة المساجد، خصوصًا خلال صلاة الجمعة، أن هذا الاختبار غائب عن الوزارة، أو يأتى فى ذيل أولويات الاختبارات التى تجريها الوزارة لأئمتها رغم أنه الأهم.
الحق أن الخطيب ربما يكون معتدل الفكر جدًا، ولديه قدر واسع من الثقافة، ليس على المستوى الدينى والإسلامى فحسب، بل على المستوى العام أيضًا، لكن لا يؤدى المطلوب منه، لأنه لا يمتلك القدرة على توصيل فكره المعتدل وترسيخه لدى الناس أو الذين يخاطبهم، فهو يفتقد طريقة إلقاء الخطبة أو الدرس، فنراه يعلو بصوته فى مواضع لا تحتاج العلو، ويهبط فى مواضع تحتاج لحدة الصوت فى الترهيب، أو ينبر وينغم ويقف ويفصل ويواصل فى مواضع لا تحتاج هذا منه، قد يتحدث فى موضوع فى غاية الأهمية، ومدعم جيدًا من القرآن الكريم والسنة المطهرة، لكن حشرجة صوته، وبهاتة أدائه تجعل المستمع يشمئز من الإصغاء له، والتركيز الجيد معه، وربما « عسّل له شوية » أثناء الخطبة أو الدرس، وينصرف بعدها وقد حلف يمينًا مغلظًا ألا يعود للصلاة فى هذا المسجد مرة أخرى، بعدها ربما يصادفه سماع ذاك الموضوع، ومضمونه نفسه عبر أى وسيلة أخرى، سواء بزاوية خارج سيطرة الأوقاف، أو على قناة فضائية، أو أحد مواقع الإنترنت، أو غيرها من الوسائل، من خطيب آخر متطرف يبهره بجودة أدائه، وبكائه وتباكيه، ويسحره بعذوبة صوته، رغم أنه خطاب إرهابى بامتياز، يتلقفه المستمع بحماس ودون تمحيص، وبعدها يتوكل على الله ويطبق ما سمعه من الشيخ الإرهابى الذى يحرض على العنف الدينى والمجتمعى. ما زلت أذكر خطيبًا ذا صوت أجش، وإلقاء رصين، وهو يصرخ فى إحدى خطب العيد ناعتًا العلمانيين بالكفر والضلال، وأذكر وقتها «مصمصة» شفاه المخاطبين، وحوقلتهم ثناء على كلامه، السر هنا فى جودة الإلقاء ولو كان المضمون سيئًا وتكفيريًا.
هنا يأتى التساؤل: لماذا يترك البعض مسجدًا بجوار منزله ويذهب للصلاة فى مسجد آخر يبعد عنه كيلو مترات؟، ليس بالضرورة أن يكون الأمر متعلقًا بالرغبة فى زيادة الحسنات، بقدر ما هو اقتناع بالخطيب الذى يحرك إلقاؤه خلجات نفسه، ولماذا تعلقنا بخطباء ونحن صغار، وبشيوخ سمعناهم عبر الكاسيت دون أن نراهم، وكانت أفكارهم تعج بالتطرف، ومع ذلك أقنعونا بها قبل أن ننضج ويتبين لنا الغث من السمين؟!.. الإجابة واضحة: الإلقاء، والقدرة على الإقناع حتى لو بما هو خطأ.
إن الأمر أشبه تمامًا بالمعلم الذى تخرّج فى تخصصه بتقدير امتياز، وربما يمكن وصفه بالموسوعى، لكنه لا يستطيع إقناع الطلاب بشرحه، لأنه لا يطبق القواعد التربوية فى التدريس، فيكون فاشلًا فى نظر طلابه، فى حين يكون هناك مدرس آخر ربما يكون تخرّج بتقدير مقبول، يقتنع به الطلاب تمامًا، فى حين أنه بالكاد لا يلم إلا بالمنهج الذى يدرسه لهم، لأنه يعرف جيدًا مفتاح الوصول لقلوبهم وعقولهم.
الأمر نفسه مع المعلم ينسحب على بعض خطباء المساجد من الأزهريين، حتى مع الخطبة الموحدة أو المكتوبة التى قررت الوزارة إلزام الخطباء بها مؤخرًا، سنجد خطيبًا يعتلى المنبر، و«يكرّ» المكتوب بالورقة بنفس أسلوبه المنفّر الذى ربما يفضى إلى النتائج التى ذكرناها سابقًا.. إذن وزارة الأوقاف عليها الأخذ فى الاعتبار جيدًا الاهتمام بهذه الناحية، بل لا أبالغ إذا قلت إن حنجرة الخطيب، وحركاته، وإيماءاته على المنبر، أو بالأحرى إلمامه بفن الخطابة، هى أهم ما يجب توافره فى الخطيب على الإطلاق، الذى يخاطب جميع فئات المجتمع، وعليه إقناعهم جميعًا على اختلاف مشاربهم، خصوصًا فى ظل توافر وسائل التكنولوجيا، وإمكانية تسرب الأفكار المتطرفة إلى كل بيت.
وأمر توافر الإقناع والأداء فى الأئمة والخطباء ليس وليد اليوم أو الساعة، ولا أمرًا جديدًا، فأهم الشروط التى يجب توافرها فى الخطبة أن يكون أسلوبها مقنعًا ومراعيًا لأحوال المخاطبين كما تحددها كتب الأدب والبلاغة، وهو أمر بالطبع نابع من الخطيب ذاته، لا من أحد آخر.
الحديث السابق يقودنا إلى حديث آخر وثيق الصلة به، هو عدم توافر اللغة العربية السليمة لدى الخطباء، فمعظم الخطباء فى مصر « ميح » فى اللغة العربية، أخطاؤهم فجة، فعلى الوزارة ألا تنسى أن ضمن المخاطبين قطاعًا من المثقفين أيضًا تؤذى أسماعهم مثل هذه الأخطاء، بل لا أبالغ إن قلت إنى أعرف من أسر إلى أنه انقطع عن صلاة الجمعة، وهى الصلاة الوحيدة التى كان يؤديها، بسبب ركاكة لغة الخطيب وأسلوبه، وأصبح لا يصلى الجمعة ولا غيرها، وألا تنسى الوزارة أنها دعوية، هدفها الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ومواجهة العنف والتطرف بكل أشكالهما، لكن ليس بما يؤدى إلى التطرف المضاد بالابتعاد عن الله كلية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة