الحديث عن ثورة يوليو ومكانها فى التاريخ لا يحتاج إلى التشنج والاستقطاب والرؤى الجاهزة، ومن ردود الأفعال حول ما كتبته خلال أيام سابقة، تبدو الأغلبية من الناس مدركة لهذا وبدرجات مختلفة، وأن الاستقطاب ينشأ من أصحاب الرؤى المسبقة، لكن الحقيقة أن الثورة وأى ثورة لا يمكن تقييمها بظروف اليوم، ولا يمكن استنساخها أو استعادتها، وفى حالة ثورة 23 يوليو وجمال عبدالناصر، كان تأثيرها ليس فى مصر لكن فى العالم العربى وأفريقيا، وفى توازنات القوة بالعالم.
وكما أشرنا، فإن خيارات جمال عبدالناصر نحو نظام اشتراكى اجتماعى، لم تكن اختراعا، فقد كانت مطالب وأفكار كبار المثقفين والنخب السياسية، فقد جاءت الثورة والأغلبية من الشعب فقيرة وأمية ومحرومة من الخدمات الصحية والتعليمية، مع وجود هامش أوسع للطبقة الوسطى، وتطورات تكونت على مدى سنوات بجهود وأفكار المفكرين السياسيين والاقتصاديين الليبراليين والاشتراكيين، فى حزب الوفد وغيره.
ولم يكن من السهل السير فى طريق الرأسمالية، وهناك أغلبية فقيرة، وقد جرت محاولات كثيرة للاندماج فى الاقتصاد الغربى، لكن رفض تمويل السد العالى، كان يؤكد السير نحو التنمية المستقلة، وكانت أفكار طلعت حرب وطليعة الوفد تدفع نحو هذا الاتجاه، لهذا أسرع جمال عبدالناصر فى التوسع ببناء المدارس والمستشفيات والمساكن وبناء صناعات متنوعة ودعم القائمة منها، فقد كانت مجانية التعليم أحد أهم مطالب قطاعات عريضة من الوفد والأحزاب اليسارية، كما أن طه حسين أخذ على عاتقه، عند تولى وزارة المعارف، أن يكون التعليم الإلزامى مجانيا.
وجاءت الثورة لتوسع التعليم ما بعد الإلزامى المتوسط والجامعى، وهى النقاط التى يحاول البعض اتهام الثورة بأنها كانت سببا فى تدهور التعليم، بينما التدهور وقع بعد سنوات ومع تحولات الاقتصاد والسياسة، ونفس الأمر فيما يتعلق بالصناعة وحدوث تلوث وعشوائيات، وهى أثار وقعت بعد سنوات، خاصة أنه لم يتم توسع جغرافى بالرغم من تضاعف السكان خمس مرات تقريبا، فضلا عن غياب التخطيط خلال ثلاثين عاما، وثبات عدد المنشآت الصحية والتعليمية،وبالتالى فإن ثورة يوليو تحاسب بمعايير زمنها، حققت نقلات اجتماعية وتعليمية وصحية، تدهورت مع تحولات الاقتصاد المشوهة من السبعينيات، جعلته بلا ملامح.
دوليا كان العالم خارجا من حرب عالمية، وأقطاب تتشكل بوضوح وبتسارع وسباق نووى وفضائى واسع، نجح عبدالناصر فى استغلال هذا الاستقطاب، وسعى مع زعماء آخرين لإقامة منظمة عدم الانحياز، لتبقى الدول الناهضة قادرة على البقاء بعيدا عن الاستقطاب المباشر، وكانت مصر قادرة على التأثير فى مسارات السياسة الإقليمية بمعايير وقتها.
الشاهد أن ثورة يوليو هى ابنة زمانها، يصعب محاكتها بموازين اليوم، ولا يمكن تطبيق خطواتها اليوم، فقد تغيرت الظروف والشروط داخليا وإقليميا ودوليا.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة