من الملاحظ أن العمليات الإرهابية فى أوروبا تقع فى الدول الكبيرة مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا وإسبانيا.. وغيرهم، بينما لا نرى أعمالاً إرهابية فى الدول الصغيرة فى شرق أوروبا، والتى يتجه إليها اللاجئون أيضًا، مثل هنغاريا وتشيكيا وبولندا وبلغاريا ورومانيا وجمهوريات البلطيق الثلاثة (أستونيا ولاتفيا وليتوانيا) ولا فى اليونان التى تأوى الآلاف من اللاجئين، ويبدو أن هناك من يتولى توزيع التهديدات، فالإرهاب يتجه لدول أوروبا الكبيرة، بينما الدول الأخرى فى شرق أوروبا يتجه إليها عدو آخر، هو روسيا، التى تشن عليها واشنطن وحلف الناتو حملة عدائية غير مسبوقة، فاقت فى رأى البعض زمن الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفيتى، وهذا الأمر لم يبدأ، كما يعتقد ويروج البعض، مع الأزمة الأوكرانية فى فبراير 2014 وعودة القرم لروسيا، بل بدأ من قبل ذلك بخمس سنوات عندما اعتدت جورجيا على جارتها الصغيرة أوسيتيا الجنوبية فى 8 أغسطس عام 2008، وقتلت المئات من النساء والأطفال، وتدخلت روسيا بحكم مسئوليتها الدولية عن منع النزاعات بين الجانبين، وطاردت القوات الروسية القوات الجورجية، ووصلت الدبابات الروسية إلى حدود العاصمة تبليسى، وشاهد العالم كله الرئيس الجورجى ساكاشفيلى وهو يختبئ تحت أجساد حرسه الخاص والطائرات الروسية تحلق فوق رأسه، وكانت القاعدة العسكرية الأمريكية فى العاصمة تبليسى على بعد أقل من مائة كيلومتر، ولم تتحرك واشنطن خطوة واحدة لحماية حليفها ساكاشفيلي، منذ هذه الحرب والناتو وواشنطن يروجون للخطر الروسى، ويقولون إن روسيا تستعد لغزو جيرانها الصغار واحتلال أراضيهم، رغم أن القوات الروسية غادرت جورجيا بعد خمسة أيام فقط.
بعد ذلك بدأت واشنطن تشن حملات هجومية على روسيا ورئيسها بوتين، وتحول أوباما الذى كان فى بداية ولايته يزعم أنه سيطلق العلاقات الروسية الأمريكية إلى آفاق واسعة، تحول إلى عدو لروسيا يصرح علنًا بأنه سيحطم اقتصادها وسيحد من قوتها وغرورها، ويتهمها بأنها وتنظيم "داعش" يشكلان معًا أكبر تهديد للمجتمع الدولى، وجاءت الأزمة الأوكرانية لتزيد حدة الهجوم على روسيا ويزيد تخويف واشنطن وحلف الناتو للأوروبيين الصغار جيران روسيا من خطر الغزو الروسى لبلادهم، وهو الأمر الذى لا يصدقه عاقل، والرئيس الروسى فلاديمير بوتين قال مرارًا وتكرارًا إن بلاده لا مصلحة لها فى السعى إلى المواجهة مع أى دولة، ولا يمكن أن تعتدى على أى دولة، إلا أنه أكد فى الوقت ذاته أن موسكو لن تتوانى عن الدفاع عن مصالحها.
التصريحات العدائية التى تصدر من واشنطن ضد روسيا زادت حدتها فى الفترة الماضية بعد انطلاق العملية العسكرية الروسية ضد الإرهاب فى سوريا، وسمعنا وزير الدفاع الأمريكى أشتون كارتر يكرر ما سبق أن قاله رئيسه أوباما، أن روسيا تشكل أكبر تهديد على السلام والأمن الدولي، وتصريحات قائد الجيوش الأمريكية الجنرال جوزف دانفورد الذى قال: «روسيا تشكل اليوم أكبر تهديد للأمن القومى الأمريكى»، وبعده بأيام قليلة كررت وزيرة سلاح الجو الأمريكى ديبورا جيمس نفس التصريح أثناء جولتها فى بعض دول أوروبا، حيث قالت إن روسيا تشكل أكبر تهديد للأمن القومى لبلادها ولحلفائها الأوروبيين، وأنه يجب على الولايات المتحدة أن تعزز وجودها العسكرى فى أرجاء القارة الأوروبية.
حلف الناتو من جانبه كشف عن وجهه العدائى لروسيا بوضوح فى مؤتمره الأخير فى التاسع من يوليو المنصرم فى وارسو، حيث أعلن عزمه نشر قوات عسكرية فى البلطيق وشرق بولندا للمرة الأولى، وذلك لردع روسيا التى تعتبر، على حد زعم قيادة الحلف، أن هذه الدول التى كانت ضمن الاتحاد السوفيتى السابق، تقع فى دائرة نفوذها. وقرر حلف "الناتو"، المكون من 28 دولة، تحريك أربع كتائب بإجمالى ثلاثة إلى أربعة آلاف جندى إلى شمال شرق أوروبا، وقال الأمين العام لحلف الأطلسي، ينس ستولتنبرغ: "هذه الكتائب ستمتاز بالقوة وستكون متعددة الجنسيات".
ترى ما السبب وراء استخدام واشنطن وحلف الناتو لروسيا كفزاعة قوية، وبالتحديد فى أوروبا، الأمر الذى جعل الأوروبيين يقولون «واشنطن تنقلنا من إسلاموفوبيا إلى روسيا فوبيا»؟، أليس الأجدر بواشنطن وحلف الناتو أن يركزا جهودهما على محاربة الإرهاب الذى ينتشر بشكل كبير فى أوروبا والولايات المتحدة، أم أن هذا الإرهاب الذى يخيف العالم كله لا يخيفهم كثيرًا لأنهم يعرفون حدوده ومصدره وتوجهاته وإمكانياته، لكنهم لا يحاربونه لغرض ما فى نفوسهم؟! وهل يعقل أن روسيا التى تحارب الإرهاب بجدية وحماس بشهادة الجميع، تصبح هى العدو الآن؟
أمام واشنطن هدفان من حملة التخويف والترهيب من روسيا، أولهما الهدف الأمريكى المعروف دائمًا وهو المال، والذى سيذهب الجزء الأكبر منه لمصانع السلاح الأمريكية، من خلال حملة مكثفة لدفع الأوروبيين لزيادة الإنفاق على الدفاع، وهو ما ذكرته الوزيرة الأمريكية ديبورا جيمس صراحة فى جولتها فى دول أوروبا، حيث أعربت عن خيبة أملها، لأن أربعة فقط من أعضاء حلف شمال الأطلسى الـ28 أوفوا بالتزامهم المتمثل فى إنفاق 2% من الناتج المحلى الإجمالى على الدفاع، كما أن المال سيأتى فى هذه الحملة ليس فقط من أوروبا بل من داخل أمريكا نفسها، فحملة التخويف من روسيا لها علاقة دائمة ببداية النظر فى مشروع الميزانية الأمريكية للتسليح والدفاع، وتتصاعد الحملة أكثر ضد روسيا كلما اقترب موعد مناقشة الميزانية العسكرية فى الكونغرس.
الهدف الثانى من الحملة ضد روسيا هو تثبيت أقدام أمريكا فى القارة الأوروبية، خاصة فى الدول الجديدة فى شرق أوروبا، حيث تشعر واشنطن بقلق كبير من تراجع نفوذها فى أوروبا ورفض الدول الأوروبية الكبيرة لوجودها العسكرى على أراضيها، وزيادة التقارب الروسى الأوروبي، وهو ما صرحت به الوزيرة الأمريكية ديبورا قائلة «إن واشنطن ترد على تصرفات روسيا المثيرة للقلق مؤخرًا بتعزيز وجودها فى القارة الأوروبية».
الغريب أن الدول الأوروبية الكبيرة مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا ترفض تمامًا أى تصعيد ضد روسيا، وتسعى بجدية لرفع العقوبات عنها، ويقول قادة هذه الدول إنه لا أمن لأوروبا بمعزل عن روسيا، وهذا ما يغيظ واشنطن ويقلقها كثيرا، ولهذا تستخدم حلف الناتو والدول الأوروبية الصغيرة لتثبيت نفوذها فى أوروبا.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة