احترف خبراء تحاليل التوك شو هذه الأيام عبارة «طرح أفكار خارج الصندوق»، ثم يقولون كلاما لا علاقة له بالصندوق أساسا، داخله أو خارجه، والسبب هو أن «معدة» البرامج كبيرة وشرهة، وتحتاج موضوعات تلتهمها طوال الوقت، ولو افترضنا أن لدينا عشر فضائيات، وكل واحدة فيها برنامج توك شو يومى لمدة ثلاث ساعات على الأقل، فنحن نتحدث عن 30 ساعة «كلام فى كلام» فى اليوم الواحد، أى 210 ساعات فى الأسبوع، أى 900 ساعة فى الشهر، أى 11 ألف ساعة فى السنة.
لا يوجد بلد فى العالم يتحمل هذا العبء الثقيل سوى مصر، وقدرها أن وقعت فى دائرة الاستهداف الإعلامى منذ سنوات طويلة، فإذا شحت المياه فى أبوكبير شرقية، تداعت لها سائرالفضائيات بالكاميرات والمراسلين، وإذا سقط جزء من سور مدرسة فى إدفو، اهتزت الاحتجاجات فى أصوات المذيعين والمذيعات، جلدا وتأنيبا وتوبيخا للوزير ومدير المنطقة وناظر المدرسة والفراشين، وناعية الإهمال والتسيب والقصور والفشل، دون انتظار للوصول إلى الحقيقة.
المعضلة الثانية تتمثل فى التكرار الذى يعلم الشطار، فالموضوع الواحد حتى إذا كان بسيطا أو تافها، يظل «كعب داير» على البرامج طوال الليل، وفى الفترة الصباحية، نفس المتحدثين وهو هو الكلام، وأحيانا تجد ضيفا واحدا يظهر فى أربعة برامج فى ليلة واحدة، وقضية واحدة، فيصبح بفضل دعاء الوالدين «سوبر مان» فى التحاليل وإبداء الرأى، وتسرى عدواه فى الفضائيات الأخرى التى لم تستضفه، فتتسابق نحوه فى حالة أشبه بمقرئى الجنازات فى الأرياف.
ليس عيبًا كثرة البرامج ولا أن تتسلط الأضواء لكشف الفساد والتسيب والانحراف، ولا عيبا أن يكون الإعلام المصرى صاحب السيادة والريادة.. ولكن العيب هو التطويل والإسهاب والافتعال واللت والعجن.. العيب عندما تتعمد بعض الفضائيات العبث بهموم الناس، مثلما كانت تذهب «الجزيرة» بسيارات مليئة بجراكن فارغة، وتوزعها على الناس لتصوير مظاهرات العطش.. العيب فى التهويل والمبالغة والإثارة وإشعال حرائق من مستصغر الشرر.. العيب فى التركيز على النقائص والسلبيات وإظهار مصر وكأنه لا يوجد فيها إلا العشوائيات وأطفال الشوارع. العيب ليس فى الصندوق، ولكن من يدعون أنهم «بره» الصندوق وهم محشورون «جوه» الصندوق، ورحمة الله على سيد درويش صاحب الطقطوقة الخالدة «سرقوا الصندوق يا محمد لكن مفتاحه معايا».