أمس، مرت الذكرى الثامنة لرحيل شاعر فلسطين الأكبر «محمود درويش» الذى منذ أن توفى لم ينقطع ذكره، ولم يصمت شعره، أكاد أراه مبتسما يقول: «جافيتكم لأعرفكم وأعرفنى، وغبت عنكم لأرانى فى قلوبكم متسامحا وعطوفا وحانيا ومزهوا ومترفعا وصافيا، أنا الطفل النزق الخاشع، تغربت عن حضن أمى لأسكن ما بين ضلوعكم، وتركت يد حبيبتى لأنام فى جفونكم، فإن قرأتم شعرى حييت وإن تذكرتمونى جئت، وإن عبستم فى وجهى انصرفت».
فلنتذكر درويش إذن، ولنبتسم فى وجهه مكتشفين كيف كان يحب الحياة ويغنى لها، مجددين بذلك حياته التى لم يجرؤ الموت على أن يسلبه إياها، ومن بين قصائد درويش الكثيرة، تقف قصيدة «يطير الحمام» كعروس قصائده التى كتبها للحب والحياة والخصب والشجن، تكاد هذه القصيدة أن تكون القصيدة الوحيدة التى لم يخلط فيها رمز الأنثى برمز الوطن، وهو الذى ظلمناه كثيرا حينما ألصقنا بكل أنثى يعشقها ويكتب فيها شعره الرقراق صفة الوطن وشكله وتضاريسه، لذلك كان «درويش» حادا فى الإعلان عن أن الأنثى التى يغنى لها فى «يطير الحمام» هى أنثى حقيقية من لحم ودم، يشتهيها وتشتهيه، يجافيها وتصطفيه، يلجأ إليها وتلوذ به، يعانقها ويجلس على ركبتيها، وتعانقه فتنقذ حلمه من شوكة حاسدة.
«أعدى لى الأرض كى أستريح فإنى أحبك حتى التعب» هكذا يصرخ درويش مناديا حبيبته الوردية كالرخام، والصافية كالزجاج، والحانية كالياسمين، والبريئة كيوسف، والصابرة كأيوب، والمشتهاة كامرأة أوريا، فناداها فسمعت نداءه، وغنى لها فدنت منه، ومال إليها فعانقته، متحملة روحه المتمردة الحرون، قائلة «أنا وحبيبى صوتان فى شفةٍ واحدة» لتعبر عن أقصى درجات الاندماج والتمازج والتماهى، رغم أنها تعرف أنها له لوحده بينما هو فقط «لنجمته الشاردة» التى يراها ربة الخصب والشعر والحب والأغنيات، فيناديها قائلا: «كم مرّةً تستطيعين أن تولدى فى منامى/ وكم مرّةً تستطيعين أن تقتلينى لأصرخ/ إنى أحبّك كى تستريحى» ليتحولا فى النهاية إلى «صوتان فى شفة واحدة»، مرددا ذات المعنى الذى فاض به الحلاج حينما قال: «أنا من أهوى ومن أهوى أنا/ نحن روحان حللنا بدنا».