مرثية رجل تافه
مضت حياته...كما مضت
ذليلة موطَّأة
كأنها تراب مقبرة
وكان موته الغريب باهتا مباغتا
منتظَرا، مباغتا
الميتة المكررة
كان بلا أهل، بلا صِحاب
فلم يشارك صاحبا - حين الصبا - لهوَ الصبا
ليحفظ الوداد فى الشباب
طان وحيدا نازفا كعابر السحاب
وشائعا كما الذباب
و كنتُ أعرفه
أراه كلما رسا بى الصباح فى بحيرة العذاب
أجمع فى الجراب
بضع لقيمات تناثرت على شطوطها التراب
ألقى بها الصبيان للدجاج و الكلاب
و كنت إن تركتُ لقمة أنفتُ أن ألمُّها
يلقطها، يمسحها فى كمِّهِ
يبوسها
يأكلها
فى عالم كالعالم الذى نعيش فيه
تعشى عيون التافهين عن وساخة الطعام و الشراب
وتسألوننى: اكان صاحبي؟
وكيف صحبةٌ تقوم بين راحلَيْن؟
إذن لماذا حينما نعى الناعى إلى نعيَهُ
بكيتهُ
وزارنى حزنى الغريب ليلتين
ثم رثيتهُ.. !
ذلك المساء
حدثتمونى عن سنابك مجنحه
تفتق الشرار فى أهلـّة المآذن
عن عصبة من السيوف لا تفـل
قد أُغمدت فى الصخر لاتـُسل
إلا إذا قرأتم دونها أسماءكم
ياعصبة الأماجد
الأشاوس
الأحامد
الأحاسن
وقلتم:
يا أيها المُغنى غننا
مُسـَمل العينين فى حضرتنا
لحناً يثير زهونا
ويذكر انتصارنا
(إذا تحين ساعة موعودة
نغيم فى أشراطها
لم تنخلع عن غيمها إلا لنا
الساعة التى تصير فيها خَوذةَ الشيطان
كأسا لخمر سيد الفرسان.
أحلام الفارس القديم
لو أننا كنّا كغُصنى شجره
الشمسُ أرضعتْ عروقَنا معا
والفجرُ روّانا ندىً معا
ثم اصطبغنا خضرةً مزدهره
حين استطلنا فاعتنقنا أذرُعا
وفى الربيع نكتسى ثيابَنا الملوّنه
وفى الخريف، نخلعُ الثيابَ، نعرى بدَنَا
ونستحمُّ فى الشتا، يدفئنا حُنوُّنا!
لو أننا كنا بشطّ البحر موجتينْ
صُفِّيتا من الرمال والمحارْ
تُوّجتا سبيكةً من النهار والزبدْ
أَسلمتا العِنانَ للتيّارْ
يدفعُنا من مهدنا للحْدِنا معا
فى مشيةٍ راقصةٍ مدندنه
تشربُنا سحابةٌ رقيقه
تذوب تحت ثغر شمسٍ حلوة رفيقه
ثم نعودُ موجتين توأمينْ
أسلمتا العنان للتيّارْ
فى دورة إلى الأبدْ
من البحار للسماءْ
من السماء للبحارْ !
لو أننا كنا بخَيْمتين جارتينْ
من شرفةٍ واحدةٍ مطلعُنا
فى غيمةٍ واحدةٍ مضجعُنا
نضيء للعشّاق وحدهم وللمسافرينْ
نحو ديارِ العشقِ والمحبّه
وللحزانى الساهرين الحافظين مَوثقَ
الأحبّه
وحين يأفلُ الزمانُ يا حبيبتي
يدركُنا الأفولْ
وينطفى غرامُنا الطويل بانطفائنا
يبعثنا الإلهُ فى مسارب الجِنان دُرّتينْ
بين حصىً كثيرْ
وقد يرانا مَلَكٌ إذ يعبر السبيلْ
فينحني، حين نشدّ عينَهُ إلى صفائنا
يلقطنا، يمسحنا فى ريشه، يعجبُه بريقُنا
يرشقنا فى المفرق الطهورْ !
لو أننا كنّا جناحى نورسٍ رقيقْ
وناعمٍ، لا يبرحُ المضيقْ
مُحلّقٍ على ذؤابات السُّفنْ
يبشّر الملاحَ بالوصولْ
ويوقظ الحنينَ للأحباب والوطنْ
زيارة الموتى
زرنا موتانا فى يوم العيد
وقرأنا فاتحة القرآن، وللمنا أهداب الذكرى
وبسطناها فى حضن المقبرة الريفية
وجلسنا، كسرنا خبزاً وشجوناً
وتساقينا دمعاً و أنيناً
وتصافحنا، وتواعدنا، وذوى قربانا
أن نلقى موتانا
فى يوم العيد القادم.
يا موتانا
كانت أطيافكم تأتينا عبر حقول القمح الممتدة
ما بين تلال القرية حيث ينام الموتى
و البيت الواطئ فى سفح الأجران
كانت نسمات الليل تعيركم ريشاً سحرياً
موعدكم كنا نترقبه فى شوق هدهده الاطمئنان
حين الأصوات تموت،
ويجمد ظل المصباح الزيتى على الجدران
سنشم طراوة أنفاسكم حول الموقد وسنسمع طقطقة الأصوات كمشى ملاك وسنان
هل جئتم تأنسون بنا؟
هل نعطيكم طرفاً من مرقدنا؟
هل ندفئكم فينا من برد الليل؟
نتدفأ فيكم من خوف الوحده
حتى يدنو ضوء الفجر،
و يعلو الديك سقوف البلدة
فنقول لكم فى صوت مختلج بالعرفان
عودوا يا موتانا
سندبر فى منحنيات الساعات هنيهات
نلقاكم فيها، قد لا تشبع جوعاًن أو تروى ظمأ
لكن لقم من تذكار،
حتى نلقاكم فى ليل آت.
مرت أيام يا موتانا ، مرت أعوام
يا شمس الحاضرة الجرداء الصلدة
يا قاسية القلب النار
لم أنضجت الأيام ذوائبنا بلهيبك
حتى صرنا أحطاب محترقات حتى جف الدمع الديان على خد الورق العطشان
حتى جف الدمع المستخفى فى أغوار الأجفان
عفواً يا موتانا
أصبحنا لا نلقاكم إلا يوم العيد
لما أدركتم انا صرنا أحطاباً فى صخر الشارع ملقاة
أصبحتم لا تأتون إلينا رغم الحب الظمآن
قد نذكركم مرات عبر العام
كما نذاكر حلماً لم يتمهل فى العين
لكن ضجيج الحاضرة الصخرية
لا يعفنا حتى أن نقرأ فاتحة القرآن
أو نطبع أوجهكم فى أنفسنا، و نلم ملامحكم
ونخبئها طى الجفن.
يا موتانا
ذكراكم قوت القلب
فى أيام عزت فيها الأقوات
لا تنسونا. . حتى نلقاكم
لا تنسونا. . حتى نلقاكم
الحزن
يا صاحبي، إنى حزين
طلع الصباح، فما ابتسمت، ولم ينر وجهى الصباح
وخرجت من جوف المدينة أطلب الرزق المتاح
وغمست فى ماء القناعة خبز ايامى الكفاف
ورجعت بعد الظهر فى جيبى قروشْ
فشربت شاياً فى الطريق
ورتقت نعلى
ولعبت بالنرد الموزع بين كفى والصديق
قل ساعة او ساعتين
قل عشرة او عشرتين
وضحكت من اسطورة حمقاء رددها الصديق
ودموع شحاذ صفيق
وأتى المساء
فى غرفتى دلف المساء
والحزن يولد فى المساء لأنه حزن ضرير
حزن طويل كالطريق من الجحيم الى الجحيم
حزن صموتْ
والصمت لا يعنى الرضاء بأن أمنية تموت
وبأن أياماً تفوت
وبأن مرفقنا وَهَنْ
وبأن ريحاً من عَفَنْ
مس الحياة، فأصبحت وجميع ما فيها مقيت
حزن تمدد فى المدينه
كاللص فى جوف السكينه
كالأفعوان بلا فحيح
الحزن قد قهر القلاع جميعها وسبى الكنوز
وأقام حكاماً طغاه
الحزن قد سمل العيون
الحزن قد عقد الجباه
ليقيم حكاماً طغاه
يا تَعْسَها من كِلْمة قد قالها يوماً صديق
مغرى بتزويق الكلام
كنا نسيرْ
كفى لكفيه عناق
والحزن يفترش الطريق
قال الصديق:
يا صاحبي!...
ما نحن إلا نفضة رعناء من ريح سموم
أو منية حمقاء...
أو أن اسمينا ببرج النحس كانا، ياصديق
وجفلت فابتسم الصديق
ومشى به خدر رفيق
ورأيت عينيه تألقتا كمصباح قديم
ومضى يقول:
"سنعيش رغم الحزن، نقهره، ونضع فى الصباح
أفراحنا البيضاء، افراح الذين لهم صباح"..
ورنا إليَّ...
ولم تكن بشراه مما قد يصدقه الحزينْ
يا صاحبي!
زوِّق حديثك، كل شيء قد خلا من كل ذوق
أما أنا، فلقد عرفت نهاية الحدر العميق
الحزن يفترش الطريق...
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة