أكثر مشهد شد انتباهى، أثناء فض اعتصام رابعة، خروج شاب ملتحٍ فى الممر الآمن، يحمل فى إحدى يديه حقيبة سفر كبيرة، وفى اليد الأخرى يجر طفلا، وخلفه زوجته المنتقبة تحمل رضيعا، والأمر يوحى بأنهم جاءوا من الأرياف للاستيطان برابعة، والإقامة الدائمة فى المنطقة التى جهزها الإخوان محاكاة لخيام منى.
لا يمكن الزعم بأن المحتشدين غُرر بهم أو ضحك الإخوان عليهم، ولكنهم وفروا أجواء جاذبة بتقديم الطعام المجانى، وإقامة الصلوات والأمسيات الدينية، بجانب تردد الدولة فى حسم الموقف مبكرا، حفاظا على الأرواح ومنعا لسقوط أعداد كبيرة من الضحايا، فتولد لدى الإخوان إحساس زائف بالقوة، وارتاح المحتشدون لاستمرار اليغمة، أكل ومرعى وقله صنعة، وشعارات سياسية زاعقة على المسرح البائس الذى يتصدر الميدان.
فى مولد الإمام الحسين والسيدة نفيسة والسيد البدوى وعبدالرحيم القناوى، تفوق أعداد الزائرين أضعاف من احتشدوا برابعة، لأن المصريين بطبعهم تهفو أرواحهم إلى أولياء الله الصالحين، ويعشقون المديح والأناشيد الدينية، ثم ينصرفون فى أمن وسلام عائدين إلى قراهم بعد الليلة الكبيرة، وكان ضروريا أن تنفض الليلة الكئيبة للمرشد وأهله وعشيرته، ولما أراد الإخوان تحويلها إلى معركة حربية، انسحب فى هدوء جمهور الموالد والمتفرجين، وتركوهم يواجهون مصيرهم.
المحتشدون فى رابعة مثل نموذج القروى الذى جاء بعائلته وحقيبة سفر كبيرة، لم يصدقوا خرافات شيوخ المنصة، ويعلمون جيدا أن سيدنا جبريل لن ينزل ليصلى الفجر معهم، وأن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لن يطلب من مرسى أن يؤمه فى الصلاة، وأن وضع صورة المعزول فى أكفان القتلى لن تخفف عنهم عذاب القبر، وأن الوقوف برابعة ليس كالوقوف بعرفات، ولكنهم وجدوها فرصة لإشعال الفوضى، خصوصا السلفيين الذى شكلوا العدد الأكبر فى حشد الخيام، وجذبوا أتباعهم من القرى والأرياف إلى القاهرة، انتظارا لما تسفر عنه المواجهة، فلو فاز الإخوان فشيوخهم على المنصة وأتباعهم فى الخيام ويمونوا أول من يقدم لهم فروض الولاء والطاعة، ولو انتصرت الدولة فبعضهم يغازلها ويرتمى تحت أقدامها، فهم أنصار وأتباع من يجلس على الكرسى.
أغمض عينيك، وتذكر تلك الأيام السوداء، واسترجع شرائط البلتاجى والعريان وبديع وحجازى، وهم يصرخون ويزأرون ويهددون ويتوعدون، والذبائح والولائم والمراجيح ومكبرات الصوت، والقنابل والسنج والمتاريس، وتكبييييييييييييييير!