أدرك جيدًا أن مثل هذه المقالة قد تثير علىّ الغبار، وتجلب لى كثيرًا من الهجوم، وربما اتهامات تصل لحد التخوين، فى زمن لم يعد للعقل والمنطق مكان، فقط الصوت العالى هو المتسيد، والمزايدة على الوطنية «أكل عيش»، ولكن لو رضخنا جميعًا لأكل العيش والصوت العالى والخوف منهما وعليهما، يبقى علينا السلام بمنطق انقطاع الأمل، وأنا مازال عندى أمل.
منذ عدة سنوات، كنت عضوًا فى لجنة تحكيم مهرجان الأفلام القومى، وكنت أشارك مجموعة من الأسماء القيمة فى لجنة التحكيم، ربما كنت أقلهم قيمة، وكان من بينهم الأديب الكبير أستاذنا يوسف القعيد، وكان من بين الأفلام التسجيلية المعروضة داخل المسابقة فيلم لا أذكر اسمه، ولكن كانت مخرجته شابة صغيرة، ذهبت لمهرجان «برلين»، قسم الشباب «برلينيل»، وهناك قررت أن تصور فيلمًا تسجيليًا، أتتها فكرته حين رأت اجتماعًا مفروضًا على شباب الفنانين العرب من العراق وسوريا ومصر وبعض دول الخليج بوفد فنانين شبان من إسرائيل، العدو والدولة التى قامت على الاغتصاب وسرقة أرض غيرها، وعشرات من الصفات التى رضعناها مع لبن أمهاتنا منذ أجيال وأجيال، وهى صفات حقة، والشابة الصغيرة التى كانت فى بدايات العشرين من عمرها بالتأكيد كانت مثلنا، رضعت من لبن أمها كما فعلنا، وكرهت كما كرهنا، وسمعت ولم ترَ كما رأينا، ولكن هذه الشابة كانت تملك عقلاً غير عقلنا، وأسلوب تفكير غير أسلوبنا، فقررت أن تصور مع الفنانين الشبان من الجنسيات العربية كيف يرون الآخر الإسرائيلى، وكيف يحاكمونه، ثم صورت مع الفنانين من الشباب الإسرائيلى، كيف يرون اتهامات العرب لهم، وصورة العربى فى وجدانهم، ولم ينتصر الفيلم لإسرائيل ولا شبابها، لكنه أدان دولتهم ووجودها.
وبينما كان الفيلم يُعرض، وقبل أن يكتمل، صرخ «القعيد» فى القاعة، وطلب حذف الفيلم من المسابقة وهو يتساءل: كيف يمكن أن يُسمح بفيلم عنوانه «التطبيع» المشاركة فى المهرجان القومى للسينما، وراح يكيل الاتهامات لصانعة الفيلم، وكنت صوتًا وحيدًا مع أصوات أخرى ضعيفة تلاشت بعد قليل للدفاع عن الفيلم، ثم صرت صوتًا وحيدًا، وكان دفاعى نابعًا من أن صانعة الفيلم رفعت لواء «اعرف عدوك» وليس «احضن عدوك»، وإن كان يوسف القعيد الذى شارك فى حرب 67، ورأى موت أصدقاء على يد إسرائيل، وعاش الهزيمة ثم شارك فى حرب العبور، وذاق فرحة النصر، له الحق فيما ذهب إليه، فإن هذه الشابة وهى ابنة جيل مختلف، ومعطيات مختلفة، لها الحق فيما ذهبت إليه بأسلوب مختلف، ولكن النتيجة واحدة، فإسرائيل مازالت عدوًا.
وظلت المناقشات بيننا طويلًا، لكنها كانت سجالًا أكثر منه نقاشًا، ولأننى كنت صوتًا واحدًا، فتم قهر وجهة نظرى أمام صوت الأستاذ القعيد، والأصوات الأخرى الصامتة التى آثرت السلامة.
انتهت الحكاية، ولكن أبدًا لم تنتهِ القضية، فالغالبية ضد التطبيع مع إسرائيل ولكن لا أحد، لا أحد يحدد ما هو معنى ومقومات التطبيع بجدية، لا أحد يجدد الخطاب ويدرس بشكل علمى النتائج المطلوبة، ويحدد السبيل لبلوغ تلك النتائج، فالكل يكره إسرائيل على طريقة شعبان عبدالرحيم، فمرسى وإخوانه كم قالوا عنهم أبناء القردة والخنازير، وهم يبادلونهم المنافع والحب، ولكن ليلًا، والخلاف السياسى حول زويل اتخذ من زياراته وتعاونه مع معهد «وايزمان» الإسرائيلى ذريعة حين نريد الهجوم عليه، وكأن زويل صاحب «الباسبور» الأمريكى لا يتعامل مع إسرائيليين إلا من خلال معهد «وايزمان»، وبسمة وخالد أبوالنجا خونة ماداما ذهبا لهوليوود.. إسرائيل شماعة لكل من يريد أن يغنى علينا أو لنا.
نعم إسرائيل مغتصبة، ودولة عنصرية، وعشرات من الصفات القبيحة، ولكن هل هى عدونا الأول؟، هل هى عدونا الوحيد؟، هل هى سبب تخلفنا ونحن سبب تقدمها؟
أنا بكره إسرائيل إيييه.. فما أسهل الغناء بأسلوب شعبولا، وما أصعب التفكير والعمل.