الحكومة العاقلة هى التى تحفز الناس على المشاركة فى إدارة شؤون البلاد
تقل حدود الحرية كلما تضاءلت المسؤولية، لذلك تقع العديد من المجتمعات فى براثن العبودية لأنها لا تدرك ذلك. تتلذذ بأن ترمى بكل المسؤوليات على أكتاف الحكومة والأنظمة السياسية من غذاء وإسكان ومرافق وبطالة وغلاء وتعليم لتصبح فى النهاية أسيرة لقرارات وقدرات هذه الحكومات والأنظمة والبخت والنصيب. وغالبًا ما تصبح هذه الحكومات والأنظمة مستبدة ديكتاتورية بعد فترة لأنها تصبح مسؤولة عن كل صغيرة وكبيرة، وتمتلك سلطات لا نهائية بلا مراقبة أو مشاركة من المجتمع المدنى بجميع أشكاله.
كما أن معظم المجتمعات التى نمت وتربت على هذه الظروف لا تستطيع أن تقول «لا» وإذا قالتها خرجت على استحياء لأنها تركت المسؤولية بالكامل على الحكومة ففقدت إرادتها السياسية وتضاءل تأثيرها الفكرى حتى فى أدق شؤونها الاقتصادية والمعيشية. فالمجتمع كله يصبح مجرد أفواه جائعة مفتوحة تتلقى ما يصل لها من لقيمات أو «فتافيت» وتفعل ما يملى عليها بلا فهم أو مناقشة لتعتاد بعد ذلك على الخمول والتنبلة وانتظار الغوث دائمًا من المسؤولين عن مزرعة وكأنهم بط بلدى.
كانت هذه الآفة هى المرض الخبيث الذى ضرب كل المجتمعات الاشتراكية، خاصةً بعد أن اجتاحتها الأزمات الاقتصادية، وعجزت الدول الاشتراكية الكبرى عن إشباع بطون شعوبها. فقد تبدو العبودية للأنظمة السياسية مقبولة فى العديد من المجتمعات طالما توفر للإنسان حياة آمنة كريمة ولكنها تصبح لعنة إذا شح الطعام، وتضاءلت سبل العيش لذلك قيل قديما «على الملك أن يطعم شعبه حتى لا يأكله».
ولكن الحضارة الحديثة والحكم الديمقراطى الحقيقى لهما رأى مختلف، فالمجتمع شريك أساسى فى اتخاذ القرارات والحكومة العاقلة هى التى تحفز الناس على المشاركة فى إدارة شؤون البلاد، وتعتبر أن ذلك حق للجماهير وواجب عليهم فى نفس الوقت لذلك تعجب الكثيرون من الاستفتاء الذى قامت به إنجلترا ونتج عنه انفصالها عن الاتحاد الأوروبى واستقالة رئيس الوزراء، وانهيار جزئى للاقتصاد بسبب نتائج الاستفتاء التى لم تزيد عن 4% «48% مع البقاء فى الاتحاد الأوروبى- 52% ضد ذلك». بل أن بعض الأصوات العربية شمتت فى هذه النتيجة وكأنها دليل على فشل الديمقراطية فى الوصول للقرارات السليمة. وبغض النظر عن صحة هذا القرار من عدمه ولكنه فى النهاية إرادة شعبية تتحمل الدولة والمجتمع تبعياتها بدون مزايدة أو تهرب.
ولا تقف حدود المشاركة المجتمعية على الشؤون السياسية فقط بل تتخطاها لكل المجالات، فنفس هذه المجتمعات المتطورة يخرج منها جمعيات أهلية ومؤسسات مدنية تكافح كل أنواع الفساد سواء الذى يقوم به رجال الدولة أو رجال الأعمال أو أفراد أو أى فئة كانت، تواجهه بمختلف الوسائل القضائية والإعلامية أو حتى بالحشد الشعبى. وهذه المؤسسات والجمعيات الأهلية لا تهدف للربح بقدر ما تعرف أهمية الدور التطوعى الذى تقوم به فى مواجهة الفساد بأشكاله، إذا كان تربح أو احتكار أو استغلال نفوذ.. إلخ.. والأفراد الذين يتطوعون للعمل فيها أو يمولونها يدركون أنهم شريك أساسى للحكومة فى إصلاح الدولة يراقب العامة والمسؤولين يصحح أخطاءهم ويطهرهم من السلبيات والآفات الإنسانية التى لو تركت لتوحشت واجتاح الفساد كل شؤون الحياة. وللأسف ثقافة العمل التطوعى فى العديد من المجتمعات العربية غائبة خاصةً فى مصر، فما بين لامبالاة الأفراد وتشدد الحكومات والأنظمة السياسية فقد المجتمع المدنى دوره الرقابى وانحصر عمله فى مكافحة الفقر والجوع والمرض، رغم أنهم مجرد أذناب جاءت من رحم الفساد الإدارى الذى أصبح كالوحش المرعب القابع فى الدولة العميقة لتظل المسؤولية عالقة بين حكومات تعجز عن مواجهته أو تستفيد منه وبين مجتمع يتجاهل دوره فى المواجهة، أو يعتاد التربح من الفساد.. وللحديث بقية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة