عزيزى إحسان..
أنا نادية لطفى، وأنت لا تعرفنى، وإن كنت قد استطعت أن أُدير عنقك فى المرتين اللتين وقعت عيناك فيهما على.. مرة على شاطئ سيدى بشر، ومرة فى فندق سميراميس فى القاهرة.. وفى كلتا المرتين لم أهتم بالتفاتك كثيرا، فقد تعودت أن أُدير أعناق الرجال...
استهل إحسان عبد القدوس بهذه السطور روايته "لا أنام" وبعد أن وقعت عينى على كلماته لأول مرة منذ أكثر من عشر سنوات، طويت الرواية، وتأملت الغلاف من جديد أبحث عن أى تنويه يربط بين الرواية والفنانة نادية لطفى ، قلبت الرواية فى يدى ولم أجد ما كنت أبحث عنه ، فقد ظننت وقتها أن " إحسان " استوحى الرواية من قصة حياة نادية لطفى ، ولم أن أعرف وقتها أن نادية لطفى نفسها لم تكن قد ظهرت للوجود بعد .
"نادية لطفى" التى عرفتها جيدا قبل معرفتى بإحسان عبد القدوس بسنوات طويلة ، تلك الشقراء صاحبة الوجه الرشيق ، منحوتة الملامح كوجه ملكة فرعونية اختلطت دماؤها بآلهة اليونان القديمة ، كان جمالها لافتا لى ، وصوتها أيضا ، صوت رخيم مميز لا يشبه غيره ، لا يختلط أبدا على الأذن ، فصوتها يحلق منفردا.
ولأن معرفتى بها سبقت لقائى بأدب إحسان عبد القدوس -كما ذكرت- اعتقدت ، وأنا أقرأ الرواية لأول مرة أن الاقتباس جاء من "إحسان"، ولكن الحقيقة أن ما حدث كان العكس تماما فـ"نجيب رمسيس" –مكتشف نادية- هو من استعار اسم "نادية لطفى" من رواية لا أنام لتطل به "بولا محمد شفيق" على المشاهد العربى فى أول أعمالها السينمائية فى فيلم "سلطان" عام 1958 أمام الفنان فريد شوقى.
يتحمس كثيرون لسعاد حسنى وحدها كأيقونة للجمال والأنوثة، وقد يرى البعض أن هند رستم وحدها رمز الأنوثة الطاغية أو يرضى آخرون أن تتقاسم مريم فخر الدين وليلى فوزى لقب الأكثر جمالا، أما بالنسبة لى اعتبرت دوما أن "نادية لطفى" مزيج متجانس منهن ، جمال يفوق ليلى فوزى ومريم فخر الدين، وأنوثة لا تقل عن هند رستم، وإن وجب الاعتراف أن هند رستم مجرة أنثوية مستقلة بذاتها ، ومذاق يختلف عن سعاد حسنى لا يجعلهم محل تنافس .
فى الطفولة مشاهدة الأفلام لم تكن تسلية فقط أو هربا من أعباء الدراسة والقيام بالواجبات ، بل هروبا إلى عوالم أخرى تغمرنا فيها أحلام شخصيات نستقى منها مُثلنا ، وتطبع فى نفوسنا آثار يصعب محوها .
كان من الطبيعى وقتها أن أبحث عن فارس أحلام بين أبطال السينما ، وبقدر حماسى لعمر الشريف ورشدى أباظة وأحمد مظهر تحمست لنجمات أبحث فيهن عن نموذج للمرأة كما ينبغى أن تكون ، وجاءت محبتى لنادية لطفى بوجه خاص لأدوار محفورة فى الذاكرة منذ الطفولة قد لا تشكل أعظم أدوارها ، ولكنها شكلت لى الكثير.
نادية فى فيلم "عدو المرأة" التى استطاعت بمفردها أن تنتصر للمرأة وتغير آراء عدوها الشهير دكتور عيسى "رشدى أباظة" الذى وصف المرأة بالحشرة فى كتاباته كان انتصارا للفكرة أن المرأة لا تقل عن الرجل، وغير مقبول أن تكون محل احتقاره، وانتصارا على رشدى أباظة الذى سقط فى حب نادية.
أتذكر غضبى من عبد الحليم بعد أن تجرأ وكان سببا فى الحزن الذى علا وجهها بينما تمايل هو كيدا فيها على أنغام "الناجح يرفع إيده" احتفالا بانتصاره عليها فى انتخابات اتحاد الطلبة، إصرارها على خوض تجربة الانتخابات التى مرت بشكل عابر خلال أحداث الفيلم لتقدم نموذج مختلف للفتاة الجميلة صاحبة الشخصية القوية القادرة على التحدى.
فقط افعلى ما تريدين وفقا لإيمانك ، وقناعاتك ، خوضى التجربة ، ليست شعارات ولكنها رسائل يختلف إدراكها من شخص لآخر هكذا رأيت ما فعلته إلهام فى فيلم "للرجال فقط”.. مهندسة كيمياء تعمل فى شركة بترول بالقاهرة طلبت كثيرا أن تنتقل إلى مقر الشركة بأماكن التنقيب فى الصحراء لتماس عملها على أرض الواقع لكن الشركة رفضت لأنها ترى أن هذه الأعمال مخصصة للرجال فقط، فقررت التنكر فى زى رجل بمشاركة صديقتها، والذهاب لاستلام العمل، وبالرغم من الفشل العظيم فى تقديم نادية لطفى فى هيئة رجل لكن نجحت الفكرة.
صحيح أن هناك أفلام أكثر أهمية لنادية لطفى كـ "الخائنة" و "النظارة السوداء" و "بين القصرين" وغيرها الكثير ولكن الأفلام الأهم للمشاهد العادى ليست بالضرورة الأهم نقديا أو ذات القيمة الفنية الأكبر، الأهم أثر تلك الأفلام فى نفوسنا أثر البنت الجميلة الجدعة.. جمال أن تكوت هى صاحبة القرار.
من يبحث في حياة نادية لطفي يجد أن الجدعنة والجمال لم يفترقا عندما قررت مساندة شادى عبد السلام في فيلمه المومياء ووافقت علي الظهور بمشهدين ليحصل شادي بعد موافقتها علي التمويل اللازم للعمل ويتصدر وجهها المشرق أفيش الفيلم.
نادية لطفى هى الفنانة الوحيدة التى زارت الرئيس الفلسطينى الراحل ياسر عرفات، وتم محاصرتها مع المقاومة الفلسطينية فى لبنان 1982، وسجلت المجازر بكاميرتها الخاصة، ونقلتها لمحطات عالمية حتى أن بعض الصحف قالت إن كاميرا نادية لطفى التى نقلت صور ما حدث فى "صابرا وشاتيلا" لم تكن كاميرا بل كانت مدفع رشاش فى وجه اسرائيل.
وفى حرب 1973 نقلت مقر إقامتها إلى القصر العينى للمساعدة فى رعاية جرحى الحرب، حيث ترقد فيه الأن مريضة بعد أن أصابتها أزمة تنفس انتقلت على إثرها إلى القصر العينى التى ملأته قبل ثلاثة وأربعين عاما أملا وبهجة فى نفوس جرحى أكتوبر، سلام إلى الحلوة التى أثبتت إن الجمال نص الجدعنة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة