عامان قد مرا على نجاحنا فى إقناع أمى بالموافقة على مد وصلة دش مثل باقى الجيران، تلك الوصلات التى انتشرت فى بيوت أحياء القاهرة الشعبية حيث لا يستطيع أغلب سكانها امتلاك أطباق دش خاصة، فلجأوا إلى حيلة الوصلات ليدخلوا عصر السماوات المفتوحة بعشرين جنيها فى الشهر قد تقل أو تزيد حسب القنوات المتاحة عبر الوصلة.
إقناع أمى تتطلب إلحاحا امتد لأكثر من عام، كانت تؤمن أن كله تليفزيون لا فرق بين القناة الأولى أو الثانية، والفضائيات التى لا نعرف عن أهلها شيئا، وبعد مداولات طال أمدها اقتنعت أمى أنه لا ضرر من مجاراة الزمن والخضوع لسنة التطوير، والعشرين جنيه تتدبر، وتم توصيل الأسلاك إلى تليفزيوننا الرمادى الصغير صاحب الأربعة عشرة بوصة كنا حريصين عند شرائه قبل سنوات على اختيار ماركة تتحمل فترات عمل طويلة قد تمتد إلى عشرين ساعة يوميا أو أكثر، بعدها هبطت على تليفزيوننا المتواضع بضعة قنوات سمينا الله بعدها، ودخلنا عصر السموات المفتوحة.
أكبر إنجاز حقيقى لتلك الوصلات -الذى أضفى المزيد من عدم الشرعية على طبيعتها- أنها لم تتح لنا فقط قنوات السماء المفتوحة بل المغلقة أيضا، فكان أول ظهور لقناة "إيه آر تى سينما" لافتا للانتباه والسعادة، أن نرى فيلما غادر شاشات السينما حديثا دون أن نتحمل عبء ثمن تذكرة سينما، أو عناء المشوار.
قبل أن أشاهد فيلمه الجديد على شاشة سينما الوصلة كنت قد شاهدت له "مستر كاراتيه" و"أحلام هند وكاميليا" و"ضربة شمس" و"وخرج ولم يعد"، ولكن لم أكن وقتها أدرى شيئا عن مهام المخرج الذى يبقى اسمه عالقا فى الذاكرة، وهو يتصدر الشاشة منفردا فى نهاية تتر الأفلام، سألت كثيرا عن طبيعة عمل المخرج، لم أكن أتلقى إلا ردا يُزيد من علامات الاستفهام، ولا يجيب عنها، فدائما تأتى الإجابة أن المخرج هو من يصنع الفيلم، كيف؟ لا أجد جوابا شافيا، وظلت أسماء المخرجين لسنوات عالقة فى ذهنى حتى أدركت أن المخرج هو بالفعل من يصنع الفيلم، وأصبح اسم المخرج العلامة التجارية التى تضمن بالنسبة لى جودة الفيلم قبل أن أشاهده.
أبلة تهانى، ونجوى علاقة بين تلميذة، وأستاذتها نسج خيوطها المخرج بإحكام فى رقة، وعذوبة، ووضع فى الخلفية أغانى الزمن الجميل بأصوات ليلى مراد، وكارم محمود، وعبدالوهاب، ووردة لتضفى مزيدا من الجمال على الصورة، وتطرب الآذان عندما يتعانق حوار شخصيات العمل مع أصوات مطربى الحب.
رحلة بحث "نجوى" القادمة من المنيا إلى القاهرة فى مهمة عمل انتهزتها فرصة لتقابل خلالها أبلة تهانى كانت فى الواقع رحلة بحث نجوى عن الحب الذى طال انتظارها له حتى أنها بدأت تكفر بمعتقدات أستاذتها التى طالما رددتها على مسامعهن فى المدرسة، كانت تقول: " الحب ممكن يحصل بين اتنين ماكنش ممكن يوم يتقابلوا" وصدقت نجوى، وآمنت أن الحب قدر، وانتظرت طويلا حبا يكون أساسا لزواجها، بعيدا عن زيجات المصالح، والظروف، والخوف من المجتمع، وصفقات العائلات، وحده الحب كان ضمان "تهانى" لتقبل أن تكمل حياتها مع رجل.
صحيح أن "نجوى" البطلة الفعلية للفيلم لكنها لم تكن إلا تجسيدا لأفكار، وأحلام "تهانى" كانت تعبيرا عن آمالها، وآلامها أيضا، خوف نجوى من نظرة مجتمع لا يقبل أن تُتم فتاة عامها الثلاثين دون رجل، خوفها الذى عبرت عنه فى حديثها مع "حياة" صاحبة بيت المغتربات الذى لجأت إليه بعد وصولها القاهرة بحثا عن "تهانى" سألت نجوى حياة هل تزوجت عن حب؟
حياة: أول مرة كان حب حياتى أصل أنا اتجوزت كبيرة كان عندى 17 سنة.
نجوى: كده كبيرة؟!
حياة: على أيامنا البنت اللى يبقى عندها 22 سنة، ولسه ماتجوزتش يقولوا عليها عانس.
نجوى: أمال لو عندها تلاتين.
حياة ضاحكة: يقولوا لها يا حاجة.
"حياة" كانت فقط تردد ما يقوله الناس ليس ما تعتقده هى، كانت ترى أن من حق الفتاة أن تملى شروطها كما تشاء، فأنهت حوارها مع نجوى ضاحكة وهى تردد مثل شعبى نسفت به كل خزعبلات المجتمع "أقعدى، ومدى شروطك عمر الجواز ما هيفوتك".
وسط بحر التساؤلات حول مصير "تهانى" المتغيبة عن منزلها منذ شهور، وأفكارها الحاضرة بقوة فى شخصية بطلة الفيلم "نجوى" تنشأ قصة حب بين شخصيتين لم يكن متوقعا أو منتظرا أن يلتقيا، فتاة صعيدية بسيطة، جاءت تبحث عن أستاذتها فوجدت بدلا منها شاب قاهرى متحرر.
حب بدأ ونمى فى هدوء بعد انتظار طويل من كلا الطرفين، ليثبت وجهة نظر "تهانى" قبل أن تدلل عليها بصوتها المكلل بالسعادة، والحب فى خطابها الأخير إلى تلميذتها نجوى تقول فيه: أكتب إليكِ الآن، وأنا على ظهر باخرة فى رحلة طويلة مع رجل حياتى، الرجل الذى انتظرته طوال عمرى، أدرك الآن أن الانتظار الذى عشته كان له معنى، لأن الحياة ستظل تفاجئنا دائما، ولأن البهجة تبحث عنا كما نبحث عنها.
0125136240... 0125136240... 0125136240... تردد نجوى فى همس رقم تليفون "يحيى" وهى جالسة على مقعدها فى القطار المتجه بها عائدا إلى المنيا، وقلبها يهتف أبلة تهانى كان عندها حق.
شاهدت الفيلم عشرات المرات منذ سنوات على شاشة سينما الوصلة، وعشرات المرات بعدها، وحتى الآن فى كل مرة أرى فيها "نجوى" أو أسمع صوت سعادة "تهانى" فى النهاية، أشعر أنى مدينة بشكر من أعماق القلب إلى الرجل الذى صنع هذا العمل.
شكرا لأنك أبدعت "فى شقة مصر الجديدة".
شكرا على كل الطاقة الإيجابية التى يمنحها لى هذا الفيلم.
شكرا لأنك تعشق التفاصيل، وتحب المرأة.
شكرا لك محمد خان.. سلام إلى روحك المؤمنة بالحب.. الله يرحمك.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة