ظلت كسوة الكعبة الشريفة من أهم مظاهر التبجيل والتشريف لبيت الله الحرام، ويرتبط تاريخ المسلمين بكسوة الكعبة المشرفة، وصناعتها، والإبداع فيها، وتسابقوا لهذا الشرف العظيم حتى جعلوا يوم تبديلها من كل عام احتفالًا مهيبًا لا نظير له؛ فما قصة هذه الكسوة المشرفة التى برع فى صناعتها أكبر فنانى العالم الإسلامى؟..
كسوة الكعبة فى العصر الحديث
فى عام 1346 هـ/ 1926م أصدر الملك عبد العزيز آل سعود أمرًا ملكيًّا بتشييد مصنع أم القرى الخاص بصناعة الكسوة الشريفة، وجلب له أبرع الفنيين والعمال المهرة، وفى عام 1382هـ صدر مرسوم بتجديد المصنع، واستمر إنتاجه حتى عام 1977م، وافتتح الملك عبد العزيز مقرًّا جديدًا فى أم الجود الذى يؤدى رسالته مواكبًا للتطور العلمى والفنى، ويتكون المصنع من ستة أقسام، هى: الحزام والنسيج اليدوى والصباغة والنسيج الآلى والطباعة والستارة الداخلية.
مراحل تصنيع الكسوة المشرفة
تمر كسوة الكعبة المشرفة بعدة مراحل، وهى كالتالى: (1) المرحلة الأولى: مرحلة الصباغة: وهى أولى مراحل إنتاج الثوب بالمصنع؛ حيث يزود قسم الصباغة بأفضل أنواع الحرير الطبيعى فى العالم، ويتم تأمينه على هيئة شلل خام عبارة عن خيوط مغطاة بطبقة من الصمغ الطبيعى تسمى سرسين. تجعل لون الحرير يميل إلى الاصفرار، وتزن الشلة حوالى 100 جرام وبطول حوالى 3000 متر تقريبا وبارتفاع 76سم، وتتم صباغته على مرحلتين..
- الأولى: مرحلة إزالة الصمغ، وتتم فى أحواض ساخنة تحتوى على صابون "زيت الزيتون" وبعض المواد الكيميائية، ثم تغسل بالماء عدة مرات حتى تعود للون الأبيض الناصع.
- الثانية: مرحلة الصباغة، وتتم فى أحواض ساخنة تمزج فيها الأصبغة المطلوبة، وهى: الأسود بالنسبة للكسوة الخارجية للكعبة المشرفة، والأخضر لكسوتها الداخلية.
(2) المرحلة الثانية: مرحلة النسيج: وهى تحويل الشِّلل الحريرية إلى أكوام ليتم تسديتها على مكنة السداء؛ وذلك بتجميع الخيوط الطولية للنسيج بجانب بعضها على أسطوانة تعرف بمطوة السداء، وتسمى هذه المرحلة "التسدية" ثم تمرر الأطراف الأولى بهذه الخيوط داخل أسلاك الأمشاط الخاصة بأنوال النسيج وتسمى مرحلة اللقى.
أما الخيوط العرضية اللُّحمة للنسيج فتلف على بَكَر خاص يسمى "بوينه" التى تثبت داخل المكوك، وهو الذى يتحرك داخل الخيوط الطويلة ليكون المنسوج حيث تأخذ طريقها إلى النسيج اليدوى والنسيج الآلى.
(3) المرحلة الثالثة: وهى مرحلة التصميم: حيث يقوم المصمم بعمل دراسات للزخارف والخطوط فى الفن الإسلامى، ثم توضع تصميمات مدروسة ترسم رسما دقيقا فى المساحة المطلوبة ويتم تلوينها وتحبيرها، وتشمل التصميمات الزخارف والكتابات المطرزة على الحزام والستارة وكذلك تصميم الزخارف النسجية المنفذة على أقمشة الجاكارد للكسوة الخارجية أو الداخلية.
(4) المرحلة الرابعة: مرحلة الطباعة: فى هذا القسم يتم أولا تجهيز المنسج، والمنسج عبارة عن ضلعين متقابلين من الخشب المتين يُشد عليهما قماش خام (للبطانة)، ثم يثبت عليه قماش حرير "أسود سادة" غير منقوش، وهو الذى يطبع عليه حزام الكسوة، وستارة باب الكعبة المشرفة وكافة المطرزات والطباعة تتم بواسطة "الشابلونات" أو السلك سكرين أى الشاشة الحريرية، ثم ينقل التصميم المراد طباعته على بلاستيك شفاف بلون أسود معتم ليصبح (فيلم نيجاتيف) ثم يصور هذا الفيلم وينقل على حرير الشابلون ثم يطبع، وعندها يصبح الشابلون قالب الطباعة جاهزا لنقل التصميم على القماش مئات المرات.
(5) المرحلة الخامسة: مرحلة التطريز: وهى التطريز بالأسلاك الفضية والذهبية للأشياء المكتوبة؛ حيث تمر هذه المراحل تحت المختبر الذى يقيس درجة ثبات اللون بالنسبة للعرق، ودرجة سُمك القماش، ودرجة قوة الخيط أو القماش، ودرجة مقاومة القماش للحريق، ودرجة الاحتكاك، ودرجة ثبات اللون ضد الغسيل، ومرحلة تجميع الكسوة تكون وفقا لما ينتج من مكنة الجاكارد؛ حيث تُنتَج قطع كبيرة على حسب المقاسات المطلوبة للكسوة، وذلك بتفصيل كل جنب من جوانب الكعبة على حدة حسب عرض الجنب، ومن ثم يتم تبطينها بقماش القلع "القطن" بنفس العرض والطول. وعند التوصيلات تتم حياكتها وتثبيتها بكينار متين مصنوع من القطن بعرض 7 سم ليزيد من متانتها.
وعقب جميع هذه المراحل يقام فى موسم حج كل عام احتفال سنوى فى مصنع كسوة الكعبة المشرفة يتم فيه تسليم كسوة الكعبة المشرفة إلى كبير سدنة بيت الله الحرام، ويقوم بتسليم الكسوة الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوى الشريف كما يسلم كيس لوضع مفتاح باب الكعبة تم إنتاجه فى المصنع.
معلومات وأرقام
يستهلك الثوب الواحد (670) كجم من الحرير الطبيعى، ويبلغ مسطح الثوب (658) مترًا مربعًا، ويتكون من (47) طاقة قماش طول الواحدة (14) مترًا بعرض (95) سنتيمترًا، وتبلغ تكاليف الثوب الواحد للكعبة حوالى 17 مليون ريال سعودي؛ هى تكلفة الخامات وأجور العاملين والإداريين وكل ما يلزم الثوب.
ويبلغ عدد العاملين فى إنتاج الكسوة 240 عاملًا وموظفًا وفنيًا وإداريًّا، وتصنع كسوة الكعبة المشرفة من الحرير الطبيعى الخالص المصبوغ باللون الأسود المنقوش عليه بطريقة الجاكار عبارة "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، "الله جل جلاله"، "سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم"، "يا حنان يا منان".
كما يوجد تحت الحزام على الأركان سورة الإخلاص مكتوبة داخل دائرة محاطة بشكل مربع من الزخارف الإسلامية.
ويبلغ ارتفاع الثوب 14 مترًا، ويوجد فى الثلث الأعلى من هذا الارتفاع حزام الكسوة بعرض 95 سنتمترًا، وهو مكتوب عليه بعض الآيات القرآنية ومحاط بإطارين من الزخارف الإسلامية ومطرز بتطريز بارز مغطى بسلك فضى مطلى بالذهب، ويبلغ طول الحزام (47) مترًا، ويتكون من (16) قطعة، كما تشتمل الكسوة على ستارة باب الكعبة المصنوعة من الحرير الطبيعى الخالص، ويبلغ ارتفاعها سبعة أمتار ونصفًا وبعرض أربعة أمتار مكتوب عليها آيات قرآنية وزخارف إسلامية ومطرزة تطريزًا بارزًا مغطى بأسلاك الفضة المطلية بالذهب، وتبطن الكسوة بقماش خام.
كما يوجد (6) قطع آيات تحت الحزام، وقطعة الإهداء و(11) قنديلًا موضوعة بين أضلاع الكعبة، ويبلغ طول ستارة باب الكعبة (7.5) أمتار بعرض (4) أمتار مشغولة بالآيات القرآنية من السلك الذهبى والفضى، وعلى الرغم من استخدام أسلوب الميكنة فإن الإنتاج اليدوى ما زال يحظى بالإتقان والجمال الباهر حيث يتفوق فى الدقة والإتقان واللمسات الفنية المرهفة والخطوط الإسلامية الرائعة.
من المعلوم أن الكعبة تستبدل ثوبها مرة واحدة كل عام فيما يتم غسلها مرتين سنويا: الأولى فى شهر شعبان، والثانية فى شهر ذى الحجة. ويستخدم فى غسلها ماء زمزم، ودهن العود، وماء الورد، ويتم غسل الأرضية والجدران الأربعة من الداخل بارتفاع متر ونصف المتر، ثم تجفف وتعطر بدهن العود الثمين، وهذا الطِّيب يقدم هدية من خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز.
كسوة الكعبة قبل الإسلام
تذهب بعض المصادر التاريخية إلى أن سيدنا إسماعيل -عليه السلام- هو أول من كسا الكعبة، والبعض الآخر يذهب إلى أن عدنان جد النبي "محمد"- صلى الله عليه وسلم- الأعلى هو أول مَن كساها، غير أن الثابت تاريخيًّا أن أول مَن كساها هو "تبع أبى كرب أسعد" ملك حمير سنة 220 قبل الهجرة بعد عودته لغزوة يثرب.
وروى عن النبى- صلى الله عليه وسلم- أنه نهى عن سب تُبَّع ملك حمير بقوله: "لا تسبوا تبعا، فإنه كان قد أسلم"، رواه أحمد فى مسنده عن سهل بن سعد وكان تُبّع هو أول مَن كسا الكعبة كسوة كاملة – كساها "الخصف"، تدرج فى كسوتها حتى كساها "المعافير" وهى كسوة يمنية، كما كساها "الملاء" وهى كسوة لينة رقيقة، وعمل لها بابًا ومفتاحًا، ثم تبعه خلفاؤه من بعده فكانوا يكسونها "الوصايل"، وهى أثواب حمر مخططة، و"العصب" وهى أثواب يمنية يصعب غزلها؛ أى: يجمع ويشد.
وأخذ الأمراء فى تقديم الهدايا إليها من الأكسية المختلفة، وكلما جاءت كسوة طرحت سابقتها إلى أن جاء عهد "قصى بن كلاب"، ففرض على القبائل رفادة كسوتها سنويًّا، وما زالت قريش تقوم بكسوة الكعبة حتى زمن "أبى ربيعة بن المغيرة المخزومي" وكان من الأثرياء، فقال لقريش: أنا أكسو الكعبة وحدى عامًا وجميع قريش عامًا، فوافقت قريش، وسمى بذلك "العدل"، لأنه عدل بفعله قريشًا كلها.
أما أول امرأة كست الكعبة فى الجاهلية فهى "نبيلة بنت حباب" أم العباس بن عبد المطلب، وكانت قد نذرت ذلك. ومن المعلوم أن الكعبة قبل الإسلام كانت تُكسى فى يوم عاشوراء، ثم صارت تُكسى فى يوم النحر، وصاروا يعمدون إليها فى ذى القعدة فيعلقون كسوتها إلى نحو نصفها، ثم صاروا يقطعونها فيصير البيت كهيئة المحرم، فإذا حل الناس يوم النحر كسوها الكسوة الجديدة.
كسوة الكعبة بعد الإسلام
لم يتح لرسول الله - صلى الله عليه وسلم- كسوة الكعبة إلا بعد فتح مكة، فكساها هو وأبو بكر الصديق بالثياب اليمنية، ثم كساها عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان "القباطى المصرية"، وهى أثواب بيضاء، رقيقة كانت تُصنَع فى مصر.
ولقد حظيت مصر بشرف صناعة كسوة الكعبة منذ أيام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- حيث كتب إلى عامله فى مصر لكى تحاك الكسوة بالقماش المصرى المعروف باسم "القباطي" الذى كان يصنع فى مدينة الفيوم، وقد تعددت أماكن صناعة الكسوة مع انتقال العاصمة فى مصر من مدينة إلى أخرى حتى انتهى الأمر إلى مدينة القاهرة المُعزِّيَّة، بأن تأسست دار كسوة الكعبة بحى "الخرنفش" فى القاهرة عام 1233هـ، وهو حى عريق يقع عند التقاء شارع بين السورين وميدان باب الشعرية، وما زالت هذه الدار قائمة حتى الآن، وتحتفظ بآخر كسوة صنعت للكعبة المشرفة داخلها، واستمر العمل فى دار الخرنفش حتى عام 1962 ميلادية؛ إذ توقفت مصر عن إرسال كسوة الكعبة لما تولت المملكة العربية السعودية شرف صناعتها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة