العزلة الاختيارية التى يلجأ إليها الكثيرون اليوم ترسخها الانقسامات الفكرية والسياسية
أحياء اليهود بالمدينة المنورة.. حارة اليهود فى مصر والشام.. قاع اليهود باليمن.. الملاح بالمغرب.. الحى الرابع فى مدن أوروبا العصور الوسطى.. غيتوهات ألمانيا النازية Ghettos، كل هذه أسماء مختلفة تعبر عن نفس المعنى المَعزل، إنها تلك الأماكن التى كان اليهود عبر مراحل التاريخ المختلفة يحرصون على التجمع المنعزل فيها، وإعلاء أسوارها طوعاً وأحياناً كثيرة كرهاً كما فعلت ألمانيا النازية، إنها أماكن رسخ وجودها شعوران رئيسيان الشعور بالاضطهاد العام والشعور بالنقاوة والتميز عن الغير، ذلك التميز الذى يؤدى لتفسير ذلك الاضطهاد الذى يمارسه أولئك الأغيار حقداً وحسداً، هذا هو الارتباط بين هذين الشعورين أنا متميز نقى إذاً فالآخرون يحقدون على ويريدون انتقاصى واضطهادى لأجل هذا التميز والنقاء. هذه المشاعر تعد من أهم العوامل العازلة للمجموعات البشرية والفئات التى تتسرب إليها هذه الأحاسيس المتعاظمة، والتى تتضخم حتى تبتلعهم طوعاً لتكون النهاية المتوقعة هى المزيد من العزلة المختارة والجفاء القاسى الذى يأكل أرواحهم لتتشبث بذلك العيش فيما يشبه تلك الجيتوهات اليهودية. والحقيقة أن الأمر لم يعد يقتصر على اليهود، إن تلك العزلة الاختيارية يلجأ إليها الكثيرون اليوم بقصد أو بغير قصد، عزلة رسخها ويرسخها تلك الانقسامات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والتى يصر البعض على إذكائها وإبقاء جذوتها متقدة لتظل العزلة والفرقة تتزايد وتتزايد بين أبناء الوطن الواحد.
يوم أن قرأت رواية يوتوبيا للدكتور أحمد خالد توفيق، اعترى قلبى شعور قاتم ينازعه صوت خافت، أن هذه صورة أدبية مبالغ فيها، والدكتور أحمد بالغ كثيراً إذ كيف يتصور أن يصل التمايز الاجتماعى والاقتصادى بين المصريين إلى درجة الفصل الكامل بين طبقة تتلذذ بكل أنواع النعيم الدنيوى، وطبقة أخرى تسعى على رزقها بين المزابل وأكوام القمامة حتى يصل بها البؤس إلى أن تصير فريسة يتسلى بها المتململون العابثون من أبناء الطبقة الأولى المنعزلة! مبالغة أدبية هى ولا شك هكذا انتصر صوت التفاؤل الخافت فى صدرى، وبدد المشاعر القاتمة التى أورثتها الرواية إلى حين، لكن كل يوم يمر وكل واقعة تحدث تجعل تلك المشاعر تحاول الانتفاض من جديد وتشرئب بعنقها لتبدو عليها ابتسامة ساخرة مريرة تقول بوضوح قاسٍ: أكان الأديب يبالغ حقاً؟!
الحقيقة أننى تدريجياً صرت أخشى أن تتحقق رؤيته تلك أو استقراؤه واستشرافه، إن أردنا أن نعبر بدقة أكبر العوازل المجتمعية تتزايد باستمرار والأسوار تتعالى بشكل مطرد لتنافس فى علوها علو أسوار الكومباوندات الفاخرة والقرى السياحية المبهرة التى يزيد إيجار ليلة فى أحد شاليهاتها عن أضعاف أضعاف مرتب موظف محدود الدخل، المتشابهون يتجمعون تدريجياً ويتقاربون بشكل مستمر، ويبتعدون بإصرار عن المختلفين عنهم بل لا يكتفون بالابتعاد، ولكن يختارون العزلة والأسوار. لا يشترط أن تتكون تلك الأسوار من حجارة وملاط ولكنها كثيراً ما تكون أسوار حجارتها الجفاء والمشاعر السلبية المتبادلة وملاطها سوء الظن والتربص والريبة، وهذا ما نشهده بشكل يتعاظم بسرعة وإن لم ينتبه العقلاء إليه فلا أستبعد أن نستيقظ يوماً، وقد تحققت أسوأ كوابيسنا وصرنا إلى تلك الصورة القاتمة التى رسمها الأديب فى روايته. صورة مجتمع متمزق إلى أشلاء يفصل بين كل منها أسوار عالية تحول كل جزء إلى معزل أو جيتو يسكنه أناس يختلفون عن سكان الجيتوهات الأخرى الذين كانوا يوماً إخوانهم وأصدقاؤهم وأشباههم قبل أن يختار كل منهم أن ينعزل عن الآخر، ويكتفى بالجيتو الخاص به.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة