لا أميل شخصيًا إلى الاعتماد على نظرية المؤامرة فى تفسير العديد من القضايا والإشكاليات، لكن حينما تتكاثر علامات الاستفهام غير المبررة تحضر المؤامرة بـ«شحمها ولحمها»، بل تفرض نفسها على بقية التفسيرات، وهذا ما حدث حينما قرأت ذلك التقرير المشبوه، المنشور فى موقع «العربى الجديد» الذى يصدر فى لندن برعاية قطرية، تحت سمع وبصر وإدارة المفكر الفلسطينى عزمى بشارة الذى يلعب دورًا كبيرًا فى تشويه مصر، وإفقار شعبها منذ وقت طويل.
التقرير يحمل عنوانًا مستفزًا لأى مصرى، إذ يقول: «تفاقم أزمة الفراولة المصرية فى أمريكا.. ارتفاع أعداد المصابين»، وهو عنوان يجزم بأن الفراولة المصرية هى التى تصيب الأمريكان بالأمراض وليس غيرها، لكن ليس هذا العنوان هو ما يؤكد خبث الغرض ووضاعة القصد، بل هذا المنشور على صفحة الموقع على «الفيس بوك»، الذى يؤكد أنه يصل إلى مستخدمى موقع التواصل الاجتماعى ضمن خدمة إعلانية مدفوعة الأجر من قبل الموقع، وهو ما يؤكد أن هذا الموقع لا يتعمد نشر الأخبار المسيئة لمصر واقتصادها فحسب، وإنما أيضًا يتعمد الترويج لهذه الأخبار بشتى الطرق، وأقربها طبعًا إلى قلب الخزانة القطرية طريقة شراء القراء، واستغلال خدمات مواقع التواصل لفرض أخبارهم على القراء فى مصر، كنوع من أنواع التحايل على مقاطعة المصريين لهذه المواقع المشبوهة.
لا تقف علامات الاستفهام عند العنوان فحسب، ولا حتى عند فكرة تعمد الموقع الترويج له، لكن فى متن التقرير العديد من الأسئلة التى تشير بأصابع الاتهام إلى صانعيه، وتكاد تكشف هذا التوجه الإخوانى القادم لضرب الاقتصاد المصرى، ألا وهو حرمان مصر من حصيلة الصادرات الزراعية، تحت دعاوى أقل ما يقال عنها إنها «مغرضة»، إذ يستعرض التقرير حالة شاب أمريكى شرب كوب عصير فراولة ممزوجة بالليمون من محل مشروبات يسمى «تروبيكال سموثى كافيه» فى منتصف يوليو الماضى، ثم بعد شهر شعر بالتعب والهزال واصفرار العين والجلد، وحينما ذهب إلى الطبيبة أخبرته بأنه مصاب بـ«الالتهاب الكبدى a»، وحينما فتشوا فى الأمر وجدوا أن الفراولة التى شربها هى المتسببة فى تلك الإصابة رغم أن مسببات المرض كثيرة، ومن بينها حقًا «المأكولات والمشروبات»، لكن من بين مسببات المرض أيضًا الماء الملوث والبراز المعدى، والمحار الذى لم يتم طهيه جيدًا، والاتصال الوثيق بشخص مصاب، فلماذا يجزم هؤلاء بأن الفراولة المصرية تحديدًا هى سبب العدوى؟
ويا للمصادفة.. طبيبة الشاب الأمريكى اختصت «العربى الجديد» بتصريحات صحفية لينفرد الموقع بذكر الخبر دون بقية المواقع الأمريكية، مؤكدة أن المرض غير مستوطن بأمريكا، وأنها أبلغت وزارة الصحة الأمريكية بالأمر. ومن ناحيتها أكدت دايان والارد، المتحدثة الإعلامية باسم وزارة الصحة فى ولاية فرجينيا، لـ«العربى الجديد» أن هناك 40 بلاغًا لمصابين بفيروس التهاب الكبد الوبائى «a» حتى اللحظة، من بينهم أحد عمال «تروبيكال سموثى»، زاعمة أن الإصابة تمت بسبب فاكهة الفراولة المستوردة من مصر، وهنا يجب أن نسأل: لماذا زعمت المتحدثة باسم وزارة الصحة الأمريكية أن الإصابة قادمة من الفراولة المصرية، ولم يكن سببها هذا العامل المصاب بالفيروس؟، ولماذا انتشر هذا الزعم برغم أن المسبب الرئيسى فى الإصابة واضح وضوح الشمس؟، وإذا كانت الفراولة هى السبب فلماذا لم يصب أى أمريكى آخر فى أى ولاية أخرى سوى ولاية فريجينا بالفيروس، برغم أن الفراولة المصرية تذهب إلى الأفرع الـ 500 التابعة لسلسلة المحال؟
بحسب «العربى الجديد» أيضًا فإن ماريان هنتر، منسقة العلاقات العامة فى وزارة الصحة بولاية فرجينيا، قالت إن وزارة الصحة فحصت مخزون الفراولة المجمدة لدى محال «تروبيكال سموثى كافيه»، وتبين تلوثها بفيروس التهاب الكبد الوبائى «a»، وهذا الزعم لا ينفى أن الشحنة فعلًا ملوثة، وإنما ربما يكون الأمر بسبب هذا العامل الذى سبقت الإشارة إليه، وهذا ليس تحيزًا منى لمصر، ولا محاولة لتبرئة ساحتنا دون حق، لماذا؟.. لأنى أعلم تمام العلم أن المحاصيل الزراعية المصدرة إلى الخارج تخضع للعديد من الفحوصات، فلو قلنا إن معاملنا متواطئة، وإن موانينا لا تدقق فى الشحنات، فهل الموانئ الأمريكية هى الأخرى فاسدة؟، وهل تنقص أمريكا الإمكانيات لاكتشاف إصابة المحاصيل الزراعية الواردة إليها بالأمراض؟
بحسب التقرير أيضًا، فإن المركز الأمريكى للوقاية من الأمراض زعم أن الاختبار الجينى للحالات المصابة بالالتهاب الكبدى الوبائى «a»، أكد أن سلالة الفيروس الذى أصاب المرضى فى ولاية فرجينيا تتطابق جينيًا مع نفس السلالة الموجودة فى الفراولة المستوردة من مصر، وفقًا لتحليل وزارة الصحة الأمريكية، وهو أمر لو يعقلون يؤكد أن مصدر الإصابة واحد، وهو أحد العاملين فى هذا المحل، وليس الفراولة بالتأكيد، لأنه لو كانت الفراولة هى السبب لكانت كل الشحنات الواردة إلى أمريكا مصابة، وهو الأمر الذى تنفيه الفقرة التالية من التقرير الذى يقول على لسان «دايان» بأن شحنة الفراولة ليست كلها مصابة بالفيروس، ولم يتم الكشف عن الفيروس فى العينات التى تم اختبارها عند فحص عينات الفراولة لدى دخولها إلى أمريكا، لافتة إلى أن تفشى مرض فيروسى فى أمريكا من الفواكه المستوردة يعد أمرًا نادر الحدوث، وهى كلها أسباب آتية على لسان المتحدثة باسم وزارة الصحة الأمريكية فى فرجينيا، فلماذا يتعمد موقع الإخوان إلصاق الأمر بمصر، برغم شبه النفى من وزارة الصحة؟!
سلسلة محال «تروبيكال سموثى كافيه» رأت هى الأخرى أن اتهام مصر بهذه التهمة يعفيها من المسؤولية، لكن ذات الفقرة التى تتهم، هى ذاتها ما تبرئها، إذ تقول إنها تخلصت من كل المخزون فى كل بقاع أمريكا «برغم أن الإصابات ظهرت فى ولاية فرجينيا فحسب».
ولأن المرض والغرض واضحان تمامًا فى هذه القضية، فقد استعان الموقع ببعض خبرائه، راسمًا سيناريو خياليًا لانتقال الفيروس، فقال على لسان أحد من يسميهم خبراء، إن العدوى ربما تكون قد ظهرت بسبب استخدام مياه الصرف الصحى فى الرى، أو بسبب انتقال العدوى من أشخاص مصابين لمسوا الفراولة أثناء تجهيزها، ولم تنجح عملية التجميد فى القضاء على الفيروس بسبب خلل تم خلال القيام بها، وبسؤالى للدكتور عمر هيكل، عضو الجمعية الأوروبية للكبد، أكد لى أن أطول فترة لحياة فيروس «a» دون حاضن للفيروس- أى بدون مصاب - وفى الظروف الطبيعية، ودرجات الحرارة الطبيعية هى أسبوع، وفى ضوء السيناريو المفترض من المواقع الإخوانية، والمعلومة السابقة بشأن أطول فترة يمكن أن يحيا فيها الفيروس دون حاضن، أدعوك أن تشاهد معى هذا السيناريو المستحيل لحدوث الإصابة عن طريق الفراولة المصرية.
فهذا الفيروس نجح فى التسلل إلى الفراولة أولًا عن طريق استخدام مياه صرف صحى، أو عدوى من أحد المزارعين، وقبل مضى أسبوع كانت هذه الفراولة معبأة وفى طريقها إلى أمريكا، ثم استطاع الفيروس أن يهرب من التفتيش الصحى فى شركات التصدير قبل الشحن، واستطاع أيضًا أن يفلت من التفتيش الصحى فى الموانئ المصرية، واستطاع أيضًا أن يفلت من التفتيش فى الميناء الصحى فى أمريكا، وبرغم أن انتقاله عبر الفاكهة أمر نادر الحدوث، بحسب وزارة الصحة الأمريكية، فإنه -من أجل عيون مصر- أصبح هو الاحتمال الوحيد، وبرغم أن التبريد أو التجميد يقضى تمامًا على الفيروس، لكن أيضًا- من أجل عيون مصر- استطاع هذا الفيروس أن ينجو من التجميد، وفى النهاية وصل إلى فم الشاب قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، ولأنه فيروس «عجيب» فقد تخفى فى كل الولايات التى زارها، واختار أن يذهب إلى ولاية فرجينيا.
هنا لابد أن نشير إلى أن تلك القصة المشحونة بالأكاذيب أصبحت المادة الأكثر رواجًا عبر المواقع الإخوانية، مثل «العربى الجديد» و«هافنجتون بوست»، وغيرهما من المواقع ذات الصلة المباشرة بقيادات الإخوان أو قيادات قطر، وعلى ما يبدو أن فكرة عودة السياحة إلى مصر قد أثارت الفزع لديهم، خاصة مع توقعات بالتدفق الدولارى إلى مصر، فأرادوا أن ينقلوا الحرب إلى أرض جديدة، ليحرموا مصر من مصدر آخر من مصادر العملة الصعبة، إذ تجلب الفراولة وحدها ما يزيد على 66 مليون دولار سنويًا، وإذا نجحت تلك الحملة فى تشويه الحاصلات الزراعية المصرية، فستفقد مصر جزءًا كبيرًا من مصادر دخلها الدولارى، حيث وصلت حصيلة الصادرات الزراعية والغذائية خلال عام 2015 إلى 4.7 مليار دولار، ولذلك فمن المهم وأن نراجع إجراءات الفحص بإحدى الوسائل التكنولوجية العالمية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة