يأتي التجديد بمعانٍ عدة تدور حول التغيير سواءٌ أكان في الوسائل أم في الموضوعات ، بمعنى أنه قد يكون التغيير في الأدوات المستخدمة في علم ما أو في فكر ما ، ومنها العلوم الإسلامية أو الفكر الإسلامي، وكذلك يأتي التغيير في مسائل تلك العلوم حين يوجد ما يقتضي ذلك من عوامل تغير الأشياء ، وتنحصر هذه العوامل في الزمان والمكان والشخص والحال .
وبهذه المقدمة يظهر لكل ذي عينين ولكل عاقل ومفكر فضلًا عن العالِم أن التجديد لا يمس الثوابت التي تناقلتها النصوص وعمل بها الناس عبر العصور من غير نكير، وتتمثل هذه الثوابت في: أصول العقائد، ومنظومة القيم، ومقاصد الشريعة، والمبادئ العامة الحاكمة، والسنن الإلهية في الكون و الاجتماع والتاريخ والإنسان. وبالحفاظ على هذه القضايا الكبرى يتحقق مراد الله من تكليف الإنسان وتشريفه؛ وبالبحث والاستقراء ثبت أن المراد من تكليف الإنسان ثلاثة أمور، الأول: عبادة الله،قال تعالى:(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[الذاريات: 56]، الثاني : عمارة الكون، قال سبحانه : (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)[هود : 61]، الثالث : تزكية النفس، قال عز وجل : (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا)[الشمس : 7- 10). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما بُعِثْتُ لأتمم مكارم الأخلاق "(رواه البيهقي والشهاب).
ولذلك لا يتصور ثمة تغيير أو تبديل لثوابت الدين وحقائقه؛ إذ من خصائص الثوابت أنها قطعية الثبوت والدلالة، وتلقتها العقول السوية بالقبول، ومن ثَمَّ لا تقبل التغيير أو التحريف أو التبديل، لأن في الحفاظ عليها لا أقول حمايةً للهوية فحسب، وإنما حماية لوجود الإنسان نفسه كإنسان، فإذا تبدلت صار شيئا آخر غير ذلك الإنسان المُكَرَّم في الشرائع كلها، قال تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)[الإسراء : 17].
وإذا تكلمنا عن تجديد الثوابت فإننا بداهة لا نتكلم عن التجديد فيها، وإنما ينصب كلامنا ودعوتنا على التجديد في كيفية توصيلها لأهل كل عصر بما يتفق والأدوات النافعة والمقنعة لمقتضيات ذلك العصر، وإزالة كل شبهة قد تعتري الناظر فيها أو حتى المتحقق بها، أو يكون التجديد المتعلق بالثوابت هو بالرجوع إليها لمن جحدها أو شكك في ثبوتها، أو اختلفت الأنظار والرؤى في المتغيرات حوله فأصابه الشتات والحيرة من كثرتها وعدم الوقوف على أمثلها طريقة أو أقواها صحة أو أصحها منهجا، فنرجع إليها لنحتمي بها ونحتكم إليها، كل ذلك لتظل تلك الثوابت كما هي، وإلا كان الخلل في المتعاطي لها والمدافع عنها، وليس فيها؛ إذ حقائق الأشياء ثابتة والعلم بها متحقق خلافا للسوفسطائية، كما يقول الإمام النسفي في كتابه (العقائد) .
وقد أطلنا النَّفَسَ بعض الشيء في الكلام عن الثوابت لئلا يتسلق متشدد أو يتسلط جاهل، فيشيع أن الغرض من تلك المقالات هو تشويه صورة الدين وطمس هويته، وهو يحسب أنه يحسن صنعا .
وإذا رجعنا لمقصودنا بالتجديد في هذه المقالات فنقرر أن المراد منه ما يتعلق بالظنيات والمتغيرات التي لا يخلو منها زمان ولا مكان، ويتحقق ذلك بتجديد التفكير في المسائل التي ورثناها عمن سبقونا من علمائنا الأجلاء رحمهم الله تعالى، والتي بذلوا فيها وسعهم وقاموا بواجب الوقت فيها لخدمة دينهم ولمصلحة إنسان عصرهم، ونالوا الأجر في اجتهادهم فيها بحسب المنهج العلمي المعتبر المستند إلى علوم اللغة والمنطق وقواعد تفسير النصوص والتي على رأسها يأتي علم المنهج لدى المسلمين، والذي حق لهم أن يفتخروا به ويشيعوه ويُقَرِّبوه لكل باحث ودارس ومثقف، وهو علم " أصول الفقه "، ذلك العلم الذي من خلاله يأتي التجديد في المتغيرات والوقائع التي تلازم وجود الإنسان وتتجدد بصيرورة الزمن وتطور الأدوات وتنوع حاجات إنسان هذا العصر، بما فيه من ثورة اتصالات ومواصلات .
إن تجديد التفكير الديني بهذا المعنى هو الضمان للتأكيد على ثوابت الدين والتمسك بها، وفي الوقت ذاته يبين عظمة أسلافتا الذين قاموا بواجب وقتهم بما يصلح لزمانهم ، وتركوا لنا أصولا وقواعد تساعدنا في الاحتذاء بهم مع اعتبار ما يستجد من أدوات عصرنا ومقتضاياته ، وبغير ذلك لا نستحق أن نكون خَلَفًا صالحا لهم أو أن ننتسب إليهم؛ إذ الرحم الذي بيننا وبينهم ليس النَّسَب فحسب ، وإنما معه العلم والاجتهاد للبناء على ما تركوا، لنكون بعد ذلك سيرة حسنة عند أبنائنا وأحفادنا كما كانوا هم لنا ، ومنهجنا في ذلك - كما أورد الإمام البيهقي في حكمة آل داود - أنه : ( على العاقل أن يكون عالما بزمانه، مقبلا على شأنه .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة