لم أتصور أبدا أن كل ألوان الطيف السياسية والفكرية المتخاصمة أبدا فى مصر، يمكن أن تلتقى فى نقطة ما، قبل ظهور موضوع "البوركينى".
نعم، الإخوان، والسلفيون، وكل ألوان الطيف من الإسلاميين، وأنصار السيسى، ويساريون وليبراليون وقوميون، كل هؤلاء، وهم لا يتفقون أبدا فى شىء، اتفقوا ونشروا المقالات والتحليلات حول "البوركينى"، باكين على الحرية المهدرة فى فرنسا، لمنعها "البوركينى" على شواطئها، ثم هللوا وطبلوا عندما أصدرت محكمة فرنسية حكما يلغى حظره، وكأن الحكم جاء تحت ضغطهم، أونتيجة لما كتبوه فى مقالاتهم.
وأكاد أن أسمع أحدهم يقول: إذا اتفق كل المتخاصمين على شىء، فمن المؤكد أن هذا الشىء صحيح جدا.
وأجيبه أن هذا ليس شرطا، وأن الأوضح فى حالتنا هذه القول، إن هذا الشىء حقق احتياجا لدى كل المتخاصمين، فما هو هذا الاحتياج؟
الوسط الإعلامى ومواقع التواصل الاجتماعى، كلها تحتاج إلى شىء تمضغه، وهناك حالة من التكرار الممل فيما يخص الأفكار المتعلقة بالشأن العام، فكل ما يكتب إما أنه مكرر، أو أن القارىء فقد اهتمامه به، اللهم إلا إذا كان هناك حدث ضخم محلى أو خارجى، ينعش وسائل الإعلام ومواقع التواصل بعض الوقت، حيث تتناوله بالتغطية والتحليل.
أحد أسباب ذلك، يتمثل فى حدة الاستقطاب الأيديولوجى والسياسى، فأصبح القارىء يعرف المدافعين عن الوضع السياسى الراهن أيا كان، ويعرف تقريبا ما سيقولونه، والآخرين الناقمين عليه دائما، وما سيقولونه، ووسط هذا تضيع قضايا، ويتم تمييع قضايا أخرى، ونسيان موضوعات مهمة.
وفى مواجهة هذا الخطر المتمثل فى إفلاس الجميع إزاء القضايا الملحة والمزمنة التى يواجهها المجتمع، وجدت قطاعات واسعة من النخبة الفرصة لكى تقول شيئا "جديدا"، آسف هل قلت "جديدا"، لا ليس جديدا، بل إنه قديم قدم عجز هذه النخب، وهو التحدث فى قضايا حريات خاصة بمجتمع آخر غير مجتمعنا، ما يتيح للجميع التقاط الأنفاس من الصراع اليومى، فى ظل استقطاب حاد، حول قضايانا اليومية، ولينسى الجميع فشلهم فى كل هذه القضايا.
دليلى على هذا هى تفاصيل هذه القضية نفسها، كيف.. تعالوا نرى؟
البداية صورة تناقلتها وسائل الإعلام لسيدة على أحد الشواطىء تخلع ملابس لا تعتبرها الشرطة الفرنسية ملابس بحر، ويقف بجوارها أفراد شرطة، وواضح أنها تخلع هذه الملابس بناءً على طلب رجال الشرطة.
الصورة فى رأيى ومن ظاهرها دليل تحضر كبير، فلم يتجاوز رجال الشرطة، ولم ترفض السيدة، ولم تعترض، إنه مجتمع أكثر منا تحضرا فى علاقة أفراده ببعضهم البعض وبالسلطة، ولا أنزه هذا المجتمع عن المشكلات، فله مشكلاته ومنها "البوركينى"، وله قضايا أخرى أعمق فى رأيى من مشكلة البوركينى، وله أدواته وسلطته وتياراته السياسية بل وثواره الذين يعرفون طبيعة هذا المجتمع ومشكلاته وأزماته ويهتمون بها، ويقول التاريخ إن هذه المجتمعات تنجع دائما فى مواجهة مشكلاتها، بالتغيير البطىء أو العنيف، هى مجتمعات حية وتتقدم دائما إلى الأمام، لأسباب كثيرة أهمها النخب التى تعيش فيها.
المرأة التى خلعت البوركينى بدون عنف أو إهانة كما هو واضح فى الصور، لم تتقدم بشكوى ضد ما حدث، ولم تجادل أفراد الشرطة، هى ارتدت ما رأته مناسبا لها، والشرطة رفضت هذه الملابس، وقررت المرأة ألا تترك متعة البحر بسبب قطعة قماش، كان هذا موقفها، وربما قررت سيدات أخريات أن قطعة قماش أهم من متعة البحر، فقررن ترك الشاطىء، هذا حقهن.
عندما عبرت هذه الصور العادية البحر إلى العالم الثالث، صاحب الرؤى العنترية "على الفاضى"، وصاحب المشكلات المزمنة، التقطه الفاشلون، لكى يحققوا فيه نصرا عز عليهم أن يحرزوه فى بلادهم، ذلك أنهم يخشون مناقشة قضايا بلادهم، لأن الفشل يواجه الكل من جميع الجهات، فقرروا الهروب بالبوركينى، الذى حقق لهم أيضا الظهور فى بقعة الضوء "الفاشية"، التى لا تتذكر الحرية إلا عندما تود امرأة ارتداء حجاب أو نقاب أو "بوركينى"، فيصرخ السلفيون "أين حرية الملبس"، أما إجبار النساء والفتيات على ارتداء الحجاب، وهو كالماء والهواء فى بلادنا، فيرونه من أخص خصوصيات الدين ولا علاقة له بالحرية، بل إن خطابهم كله تحريض على المرأة السافرة، باتهامها بأنها سبب التحرش والاغتصاب بسبب ملبسها، وهو ما يسمى بـ"لوم الضحية"، وهو نوع من التواطؤ السلفى على هذه الجرائم.
إن الروح الفاشية السلفية والتى تستولى على بعض مؤسسات الدولة، تمتطى الداعين للحرية، فتستخدمهم عندما تفرض رموزها، ليزعقوا بلا وعى، مطالبين بحرية أن تكون سلفيا، وبحقك فى ارتداء ما تريد، أما أن تكون حرا ومواطنا له حقوق وخصوصية، فهذا ويالا العجب معناه أنك "فاهم الحرية غلط"، فإذا لم تؤد الحرية إلى موقف سلفى، فهى فى الواقع العملى حرية "سيئة وحشة".
لقد انقلبت الدنيا ولم تقعد عندما قال نائب إن أصوات الأذان الصادرة من مكبرات الصوت بالمساجد تسبب قلقا للسكان، وشن عليه السلفيون فى مواقع التواصل الاجتماعى حملة شعواء، ولم يكلف أحد نفسه عناء معرفة الحقيقة، فهل بحث أحد عن درجة شدة الصوت فى مكبرات الصوت بالمساجد وما إذا كانت تتناسب مع المعايير الصحية والبيئية المسموح بها أم لا؟ بالطبع لا، ذلك أن شعار "العلم والإيمان" المرفوع لدينا منذ السبعينات على يد الرئيس "المؤمن"، لم ينتج لا علما ولا إيمانا، وإذا اشتكى أحد من صوت الأذان لن يقيسوا درجة صوت الأذان، وإنما سيقيسون درجة إيمان الشاكى، ولما تلومونهم، لقد أيدوا البوركينى ليس لأنه حرية شخصية، ولكن لأنه الأقرب لإيمانهم، إنهم لا يدافعون إلا عن رموزهم، ويورطون السذج من أدعياء الحرية فى حربهم الأيديولوجية.
وبعد أن تأخذ السلفية غرضها من دعاة الحرية، تلقيهم فى سلة المهملات عندما تبرز قضية حريات، فنجد الروح السلفية مؤيدة لكبت الحريات، ولنا فى حبس إسلام البحيرى وأحمد ناجى، وغيرهم العبرة.
إن مثقفينا لا يقتربون من قضايا الحريات والحقوق الشخصية فى بلادنا بشكل حقيقى بسبب عجزهم عن تغيير الوعى المجتمعى إزاء هذه القضايا، نعم نحن فاشلون فى ذلك، وأنا ضمن هذا الفشل، لكننى لن أضع على فشلى خيبة أخرى بالبحث عن قضية وهمية لا تخص قضايا مجتمعنا لأتوهم تحقيق نصر، ينتمى فى حقيقته إلى مجتمع آخر.
قضايا مجتمعنا التى تبدأ بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية للعمال والفلاحين والعاطلين، مرورا بكل قضايا الفقراء والمهمشين، هذه هى قضايا الغالبية العظمى من الشعب المصرى، التى تريد نخبتنا الهروب منها، فتجد نفسها أمام أزمات متوالية، آخرها أزمة لبن الأطفال، فتدلو فيه النخب بنفس دلوها فى الأزمات السابقة، فهناك مهاجمو الدولة، وهناك المدافعون عنها، واتهامات متبادلة تتيه القارىء، وقد حفظ القارىء كل ذلك.
ربما يسأل سائل مستهجنا: هل نهتم فقط بالقضايا الاقتصادية والاجتماعية؟ وأجيبه بالنفى، فهناك مثلا قضية ختان الإناث، وهى لا تتعلق بقطعة قماش، وإنما بقطعة من اللحم الحى، وليست جرائم موجهة ضد نساء بقدر ما هى موجهة ضد أطفال، وأود أن أسأل أصحاب قضية "البوركينى" ما موقف رفاقكم فى الكفاح من أجل القماش من قضية ختان الإناث؟ ستجدون أن معظم من روجوا آرائكم "البوركينية" واحتفوا بها يختنون فتياتهم، وختان الإناث جريمة بحكم القانون لكن يتم ممارستها، ويجب أن يكون دور نخبنا البوركينية تجاه هذه الظاهرة أكبر من أى قطاع آخر، فالجريمة يمارسها رفاقكم فى "البوركينى"، اسألوا أنفسكم:"هل استطعنا بعد الدفاع عن قماشهم أن نقنعهم باحترام لحم الفتيات؟".
"طيب خد عندك" قضية تجديد الخطاب الدينى، وهى قضية غير "بوركينية" أى قضية جادة، والجميع تحدثوا عن أهميتها وضرورتها، ولكن هل جددت النخب الخطاب الدينى، لسنا محتاجين إلى بحث، لأن "الكوكتيل" الذى يظهر فى كل قضية "بوركينية"، ليس لديه العمق والقدرة على التجديد، بل إن بعض أجنحته "السلفية" ضد أى تجديد، ولم تكتف الأجنحة السلفية بهذا العجز، بل إنها باتت تحرسه، فأى شىء يقال مخالف لما هو سائد، يتم وصفه بأنه خروج عن الدين والآداب و..، وأعيد تذكيركم بإسلام البحيرى وأحمد ناجى، فكيف يكون هناك تجديد، فى ظل قوانين ومؤسسات تبحث عن أى شىء مختلف لتدينه بدلا من مناقشته، وماذا كان موقف الجناح العلمانى، إنه ينتظر دائما قضية بوركينية ينضم فيها مع الجيش السلفى ليشعر أن هناك أناس يصدقونه ويستطيع الاتفاق معهم، على ماذا؟ لا يهم.
أعتقد أننا سنشهد فى المستقبل "بوركينيات" أخرى تحقق ما حققه "البوركينى" من فوائد معنوية لنخبنا، ذلك لأن العجز إزاء قضايا الواقع مازال مستفحلاً.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة