من يا سيدى الآن تستطيع نفسه أن تعمل بمقولتك العظيمة «أحبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم»
من لا يعرف «الحب» لن يستطيع أن يكتب حقا عن المسيح عليه السلام، فهو من أعظم رموز وناشرى المحبة فى الكون كله، ليس فى زمانه فحسب ولكن فى كل الأزمان.. وهو صاحب الكلمة الرائعة الأثيرة «الله محبة» فمن لا يعرف المحبة لا يصل إلى الله سبحانه، ولا يعرفه حق معرفته.
فالله هو المحبوب الأعظم الذى تنبثق منه كل المحاب.. فمحبة الأم والأب هى محبة إجلال وتقدير.. ومحبة الزوجة هى محبة شهوة ورغبة مع سكن ومودة.. ومحبة الولد هى محبة رحمة وشفقة وتوجيه وإرشاد.. ومحبة الصالحين هى محبة اجتماع على الصلاح.. ومحبة الصديق والشقيق هى محبة مودة وإخوة.
وكل هذه المحاب لا تتعارض ولا تتناقض مع محبة الله، بل تتكامل معها وتتناغم مع سيمفونيتها.. فلن تحب الله حقا حتى تحب هؤلاء جميعا وعلى قدر محبتك لله تحب خلقه جميعا.. وعلى قدر محبتك لله يتسع قلبك لكل الناس.. الطائع والعاصى، القريب والبعيد، والمحسن والمسىء، الذى أعطاك الذى منعك.
لا تعجبوا أحبتى.. فإذا غمر الحب القلوب فاض على الجميع فلم يميز بين من يستحقه ومن لا يستحقه.. إنه استقى الحب الكبير من ربه سبحانه المحبوب الأعظم وسيوزعه على خلقه دون أن يحجبه ويمنعه عن أحد.
وقد قال النبى، صلى الله عليه وسلم: «لن تدخلوا الجنة حتى تحابوا».. وعدد بعض الأسباب التى توجب وتولد وتشحن الحب بين النفوس وعلى رأسها إفشاء السلام بينكم.. وأرى أن معناها أكبر بكثير من مجرد أن يقول الرجل للآخرين «السلام عليكم»، ولكنه نشر الأمان والطمأنينة والسكينة بين الناس.. إننى أطمئن لكم وتطمأنوا لى، أن أسكن إليكم وتسكنوا إلى، أن آمنكم وتآمنونى.
لقد بذل المسيح عليه السلام الحب حتى لمن بذل له السيف فقال «من أخذ السيف بالسيف هلك».. أى من قابل السيف بالسيف ضاع وأضاع، إنه يسير على مذهب ابن آدم الأول «لَئِن بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّى أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ»، إنه يريد أن يقدم الوردة فى مقابل الشوكة، والبسمة مكان الطعنة، ولكن البشرية لم تفهم سر المارد العظيم ذلك «الحب» الذى جاء به المسيح عليه السلام.. فبعضهم أشعل حروبا باسمه دامت 171 عاما وهو منها براء.. ومحاكم تفتيش تفتش عن الضمائر.. ناسين أنه من أعظم من أحيا الضمائر وجعلها وحدها رقيبة على الإنسان، ولو أن هذا الحب العظيم تمثله العرب اليوم ما كانت كل هذه الدماء ولا الآلام ولا الجراحات التى نعيشها.
يا سيدى ما هذا «الحب» الذى جئت به وأنت تهتف بالبشر جميعا «لا تقاوم الشر بالشر، بل أغلب الشر بالخير» لقد توصلت يا سيدى بعد طول عناء فى حياتى إلى تلك الخلاصة وذكرتها فى كتبى قبل أن أتبحر فى فيض هديك العظيم.. وكتبت ذلك منذ قرابة 13عاما كاملة «لقد واجهنا البندقية بالبندقية والشر بالشر فما أغنى ذلك عنا شيئا.. بل زادنا رهقا وعنتا وسجنا وتضييقا فلنواجه اليوم السيئة بالحسنة والمنكر بالمعروف والشر بالخير».
«ولكن البشر لا يستطيع ذلك يا سيدى إننا ضعاف النفوس تغلبنا شهوة الثأر والانتقام، فمن مثلك يا سيدى يفيض بالحب حتى على خصومه، ويبذل الوردة مقابل الشوكة والأذى، ولكنك تكرر يا سيدى»، من طلب ثوبك أعطه الرداء أيضا، وإن جاع عدوك أطعمه، وإن عطش اسقه، وإن كان عريانا فاكسه، وإن كان بلا مأوى فآوه».
من يا سيدى الآن تستطيع نفسه أن تطاوعه ليعمل بمقولتك العظيمة «أحبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم»، من يستطيع يا سيدى أن يطبق كلمات القرآن «فاصفح الصفح الجميل» أى اصفح عن الذى يسىء إليك ولا تعايروه فى نفس الوقت أو تذكره بذنبه، إنها درجات عالية فى الإحسان إلى الخلائق لا تطيقها إلا نفوس الأنبياء والمحسنين والصديقين وأين نحن منهم يا سيدى؟!
لقد جاء المسيح ليعلم الكون فلسفة الإحسان والحب وهى أعلى من العدل، والقرآن العظيم فيه العدل لأهله وفيه الإحسان لأهله»وَلَكُمْ فِى الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِىْ الأَلْبَابِ «فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ».
لقد جاء منهج المسيح فى الإحسان مطابقا للقرآن فى 19 آية تدعو إلى العفو والصفح «فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ»، أى تصفح ولا تعاتب صفح المحبين المحسنين الكرام، «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ»، «فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ» فالقرآن يضعك بين درجتين لتختار لنفسك ما تشاء.. يخيرك بين العدل والإحسان.. وهكذا عيسى عليه السلام يريد أن ينقل بنى إسرائيل الذين تكالبوا على الدنيا وحولوا الدين إلى رسوم ومظاهر خالية من التقوى والضمير الحى.. إنه يريد أن ينقلهم نقلة روحية من فلسفة العهد القديم «العين بالعين والسن بالسن» إلى فلسفته فى العهد الجديد الذى سيحيى الروح والحب والإحسان.. وكلاهما جاء به القرآن «وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ».. إلخ.. وفيه «فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ».
إنه المسيح العظيم الذى يدرك أنه عندما يموت الدين الحقيقى تحيا الطقوس.. وحينما تموت التقوى من القلوب لا يبقى إلا الظاهر.. وإذا ضاع الجوهر بقى المظهر.. وإذا غاب المضمون بقى الشكل.. وهذا ما تعانى منه اليوم مجتمعاتنا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة