دخل مصطفى النحاس باشا، زعيم حزب الوفد، إلى القصر الملكى لمقابلة الملك فاروق، فوجد الملك واقفا فى القاعة الكبرى وإلى جانبه حسين سرى رئيس الديوان، وعمر فتحى كبير الياوران وبعض رجال الحاشية، وحسبما يذكر النحاس فى مذكراته، تحقيق ودراسة أحمد عز الدين «دار العصور الجديدة - القاهرة»، فإن الملك فتح ورقة كانت فى يده وأخذ يتلو منها كلمات محفوظة: «إنى أهنئكم بتولى الوزارة وثقتى وثقة الأمة فيكم وأرجو أن تكونوا عند حسن الظن على خدمة الجماهير وإنجاز الأعمال».
بعد أن انتهى الملك من كلمته فى هذا اللقاء الذى تم يوم 12 يناير «مثل هذا اليوم 1950»، قال له النحاس: «يا جلالة اللمك أود أن أكون صريحا مع جلالتك، لقد توليت الوزارة أربع مرات، وفى كل مرة أقال سواء كان فى عهد المغفور له جلالة الملك فؤاد أو فى عهد جلالتكم، تكون هذه الإقالة نتيجة دسائس ووقيعة بين الوفد وبين صاحب العرش مؤادها أن رئيس الوفد يكره الملكية، أربع مرات وأنا أقال فى منتصف الطريق، وإنى لأرجو أن نفتح صفحة جديدة وألا يكون بيننا حاجز أو حاقد وبهذا تستطيع الوزارة أن تنجز برنامجها، وأن تعمل لأبناء البلاد خيراً»، يضيف «النحاس»: «لما انتهيت استأذنت فى الانصراف، وكانت عادته وعادة أبيه من قبله أن يظل واقفاً مكانه ونتراجع نحن بظهورنا حتى نغادر القاعة، ولكنه فى هذه المرة سار بجوارى فلم أحتج إلى الرجوع بظهرى».
كان النحاس يقدم للملك تشكيل حكومته، بعد أن تلقى منه تكليفاً بذلك يوم 10 يناير 1950 على أثر فوز حزب الوفد بالانتخابات البرلمانية، ويمكن القول، إن هذا التشكيل يرتبط فى تاريخ مصر باسم عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين الذى أصبح وزيراً للمعارف فى هذه الحكومة، ويذكر النحاس، أنه اقترح على «نجيب باشا الهلالى» تولى وزارة الخارجية فاعتذر، فرشحه لوزارة المعارف فاعتذر كذلك، وتعلل بأن لديه فى مكتبه قضايا كبيرة وعويصة، فسأله النحاس: «من يتولى وزارة المعارف وأنت الذى أدرتها فى الوزارة السابقة بمهارة وأخرجت تقرير التعليم الذى كان موضع إعجاب رجال التربية جميعاً، قال: أرشح الدكتور طه حسين، فقلت يجوز أن يتم الاعتراض عليه لعاهته، فقال: يمكن تخطيها».
ويكشف الدكتور محمد حسن الزيات، وزير خارجية مصر الأسبق وزوج ابنة طه حسين، فى كتابه «ما بعد الأيام» عن «دار الهلال - القاهرة»، أن النحاس باشا حضر إلى منزل طه حسين دون موعد، فيخرج مع طه إلى الحديقة، وفاجأه بأن يتولى منصب وزير المعارف فشكره طه حسين، ولكنه يرجوه معاودة التفكير لأسباب: الأول أنه ليس عضواً فى الوفد «الحزب»، والثانى أن السراى غاضبة عليه منذ زمن بعيد، ولا ينتظر أن توافق على تعيينه، والثالث أنه ملتزم أمام نفسه وأمام الشباب ببرنامج للتعليم سبق أن شرحه عام 1937 فى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر» الذى كان يعده فى الأصل ليقدمه تقريراً إلى النحاس باشا نفسه، وهو لا يعرف رأى وزارة الوفد عندما تتولى الحكم فى تطبيق هذا البرنامج الذى يؤكد ضرورة إعلان مجانية التعليم الإبتدائى والثانوى، وهناك سبب رابع لا يحتاج إلى تبيين «يقصد عاهته».
فند النحاس هذه الأسباب طبقاً لما يذكره «الزيات»، وبدأ من «الرابع» قائلاً: «السبب الرابع كلام فارغ، إن سمح الدكتور بهذا التعبير، فقد قام طه حسين بواجباته فى إدارة كلية الآداب وفى مراقبة الثقافة، وأدى عمله مستشاراً لوزارة المعارف ومديرا لجامعة الإسكندرية بكفاية ودقة لا تعرف عن المبصرين»، وبعد أن فند النحاس الأسباب الثلاثة الباقية، قال طه حسين: «فى اعتقادى أن التعليم العام يجب أن يكون مجانياً كيلا يحرم واحد من أبناء الوطن»، ويرد النحاس: «عارف، وأنت لا بد متذكر أننا التقينا مرة فى قطار من قطارات الصعيد، وتحدثنا فى هذا الموضوع، ويقول طه حسين: وإذا أصبحت أنا وزيرا للمعارف فإن رفعتكم ستحبون قطعا إعلان مجانية التعليم فى أول خطاب للعرش تلقونه أمام البرلمان، ويسأل النحاس باشا: هذا شرط؟.. يرد طه حسين: لا، معاذ الله ليس شرطاً ولكنه توقع، فيرد النحاس وهو يتأهب للانصراف: «يعنى شرط، على كل حال شرط مقبول.. اتفقنا.. مبروك».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة