تميزت كتاباته برصدها للمجتمع، وبالحبكة الدرامية المتميزة، يجبره الشوق والحنين للجنوب البعيد على مناداته بجمل حوارية شعرية تدغدغ مشاعر المتلقى رغم تدخل العديد من الوسائط بين حروفه التى يسطرها والمشاهد، كتاباته رغم كونها نثراً إلا أنها بمثابة قصائد شعرية جميلة تنقلك إلى عالمها الخصب الذى لا مجال لفقد الدهشة فيه، إنه الكاتب السيناريست ناصر عبد الرحمن، أو كما اعتاد رفاقه أن ينادونه "سيدِى ناصر"، والذى كان لـ"اليوم السابع" الحوار التالى معه، حيث يتحدث عن حبه للكتابة، كاشفاً عن رؤيته للمجتمع والثقافة، وأثر التصوف فى حياته، وسبب ابتعاده عن كتابة الرواية، فإلى نص الحوار:
بداية، لماذا اخترت كتابة السيناريو مبتعداً عن كتابة الرواية؟
عندما بدأت الكتابة لاحظت اهتمام الجميع بما أكتب، وهذا جعلنى أهتم بالصورة وأكتب للصورة، وأطور من نفسى حتى أصبحت حرفتى كتابة السيناريو، وأود أن أؤكد أن جميع ما كتبت سواء للدراما أو للسينما هى قصص من تأليفى قمت بتحويلها إلى سيناريو، أما كتابة الرواية فهذا عمل يحتاج إلى التفرغ والبناء، وهناك رواية عنونها "أيام روض الفرج"- تحكى عن أربعين عاماً عشتها فى روض الفرج- أفكر فى كتابتها منذ أربع سنوات ولم أكتب منها حرف واحد حتى الآن لأننى مؤمن بأن العمل الروائى يحتاج إلى التفرغ.
هل تأكيدك على أن جميع السيناريوهات التى كتبتها هى لقصص من تأليفك يعنى أنك ضد تحويل رواية كتبها مبدعٌ آخر إلى عمل درامى أو سينمائى؟
لا بالطبع.. أنا لم أقصد ذلك مطلقاً، فإذا قرأت فى أى وقت رواية جيدة بها فكرة جديدة وجذبتنى سأشرع على الفور فى تحويلها إلى سيناريو.
هل بين شخوص إبداعاتك شخوص واقعيون صادفتهم فى حياتك؟
نعم، فهناك شخوص من الواقع وأخرى خيالية، فمثلا شخصية "الدكتور يوسف" فى فيلم "جنينة الأسماك" هى شخصية واقعية لطبيب كان صديقى فترة التجنيد، وفيلم "دكان شحاتة" أغلب شخوصه واقعية، بينما فيلم "كف القمر" شخصية الأم فقط واقعية، كما أن مسلسل "جبل الحلال" كل شخوصه من الخيال .
كيف يرى ناصر عبد الرحمن الحياة الثقافية والفنية فى مصر؟
أؤمن بمقولة "الفن مرآة المجتمع"، فالفن والثقافة الآن تشبه مجتمعنا فى كل جوانبه وتفاصيله، فعشوائية الفكر أصابت المثقف قبل المجتمع، وأصبحت سلوكاً فكرياً يتبعه المثقفون والكتاب، فمصطلح "بنى آدم عشوائى" به كثير من الصدق والحقيقة، وأعتقد أن من ينجو من هذه العشوائية الآن فهذا من فضل الله رحمته به.
أود لو توضح لنا فى أى شىء تتمثل هذه العشوائية..
العشوائية انتشرت فى شتى المجالات والأنحاء، بشأن الوسط الفنى والثقافى فمثلاً ما نشهده من انتشار الورش التى يتبناها النجوم والمنتجون والكتاب، فهذه العشوائية أدت إلى اختفاء بصمة المبدع الفنية، فالورش تشبه ما توصل إليه الأوربيون من أبحاث فى الزراعة والتى نتج عنها "شجرة الفاكهة" التى تثمر أكثر من نوع، فهذه الورش تقتل الخصوصية فى الإبداع، وأعتقد أن هذه العشوائية انعدام الخصوصية إحدى نتائج الحداثة والتطور التكنولوجى، فأحد الشيوخ يقول: "أصبحت العزلة مرتبطة فقط بأن تغلق الإنترنت"، وما أريد توضيحه هو أن انتفاء الخصوصية هو انعدام للتذوق، فكل الأمور تفقد مذاقها. وكذلك ما نشهده هذه الأيام فى وسائل الإعلام المختلفة من استفتاءات فى قمة العشوائية، حيث انعدام التخصص وسيطرة الجهل، حقيقةً إذا ضاعت الخصوصية من البشر نصبح أمام مجتمع تائه. وكذلك أحد أكبر شواهد العشوائية والاستسهال أن نرى أحدهم ينقل فيلما غربيا على الورق ويطبعه ويكتب على الغلاف كلمة "رواية" ثم بعد ذلك تحول هذه الرواية إلى فيلم، هل هناك عشوائية وفوضى أكثر من ذلك، حقيقة أود أن أشير إلى أن دولة كالصين لم تقم بغزو المجتمع المصرى بصناعاتها البلاستيكية والرخيصة فقط، فقد امتدت ثقافة الرخص والاستسهال إلى كل نواحى الحياة بما فى ذلك الإبداع والثقافة وصناعة السينما.. هذا أمر محزن يجلنا نأسف على حالنا أشد الأسف.
نجيب محفوظ روائى عالمى وفى نفس الوقت أصبح سيناريست متميزا.. لماذا كل هذا البعد عن الكتابة الأدبية بجانب الكتابة للشاشة؟
نجيب محفوظ بدأ روائيا ثم تعلم كتابة السيناريو على يد أحد رواده وهو المخرج السيناريست الراحل صلاح أبو سيف، وفى رأيى أن أى روائى مبدع إذا تعلم كتابة السيناريو سيصبح سيناريست رائعا وهذا ما حدث مع الروائى العالمى "محفوظ"، بينما أنا فقد فتحت عينى على كتابة السيناريو، وأرى أن الكتابة الأدبية كما سبق وأكدت فهى تحتاج إلى التفرغ والاستعداد، ومع ذلك فقد نشرت شتاء العام الماضى 2016 مجموعة قصصية بعنوان "الولد سر أبيه" عن دار "أطلس"، كما قمت بنشر 4 سيناريوهات لم تنتج فى الفترة عقب ثورة 25 يناير فى أربعة كتب، وهى "حشيشة- شماريخ- بهية- آخر نفس"، لكننى لا أملك المهارة الاجتماعية سواء فى الوسط الأدبى أو السينمائى، ما جعلنى أشعر بعدم الحفاوة والاهتمام بالمجموعة القصصية من قبل النقاد والمثقفين، ربما يكون هذا أحد أسباب قلة كتابتى للقصة الرواية بشكل منفصل عن السيناريو.
يستمع المتلقى بالمذاق الشعرى للجمل الحوارية فى أعمالك التى تتحدث عن الجنوب والبيئة الصعيدية، بينما يفتقد هذا المذاق فى أغلب الأعمال التى كان مسرح أحداثها المدينة، ما تفسيرك لهذا التباين؟
الغربة عن بيئتك- أحيانا- تجعلك تنادى على الأمكنة والشخوص الذين تحبهم بشاعرية، فالشوق غالباً ما يفرض الكتابة الشعرية فيما يخص الجنوب.
هل للتصوف أثر فى حياتك الإبداعية.. وهل فكرت فى تحويل سيرة أحد أعلام التصوف إلى سيناريو؟
بالتأكيد، فالشيخ صلاح الدين التيجانى هو من ربانى وعلمنى وفتح عينى على القراءة العالم، وله الفضل فى حياتى كلها، فإذا كان هناك خير فى حياتى وكتاباتى فهو من عند الله وبفضل شيخى ومعلمى الشيخ صلاح، وما هو سىء فى الكتابة فهو من عندى، فأنا مدين للطريقة التيجانية، أما بشأن الكتابة عن المتصوفة الكبار، فمن أحلامى أن أكتب سيناريو عن حياة "الحلاج" وآخر عن سيدنا "عمر بن الفارض"- المتصوف المصرى الكبير- وفعلاً تحدثت مع الفنان الراحل محمود عبد العزيز قبل وفاته ليقوم بأداء شخصية "ابن الفارض" فى عمل سينمائي، والمشروعان مؤجلان حالياً ومن أحلامى أن يخرجا للنور.
أطلعنا على اسم الكتاب الذى أثر فيك.. ومن هو أديبك المفضل؟
كتاب "مواكب الحب"، تأليف الشيخ صلاح الدين التيجانى، من أكثر الكتب التى أثرت فيَّ، فقد غيَّر هذا الكتاب وجهة نظرى عن الحب وجعلنى أراه بشكل أكثر اتساعاً وشمولية، أما بشأن الأدباء المفضلين فـ "ديستوفيسكى وتشيخوف هما معلماى، فقد تعلمت من الأول فهم الشخوص وإدراك مشاعرها وتعلمت من الثانى بناء الصورة وحبك المشهدية.
هل متابعو الدراما الرمضانية سيشاهدون- فى رمضان المقبل- أحد إبداعاتك؟
نعم.. فنحن سنبدأ خلال الأيام المقبلة تصوير مسلسل "هجرة الصعايدة"، وهو يرصد هجرة قرى من الصعيد فترة الأربعينيات بسبب الفيضان ونزولهم إلى القاهرة، وكيف قاموا ببناء القاهرة والجيزة، وينقسم هذا المسلسل إلى ثلاثة أجزاء، الجزء الأول يرصد الفترة من الأربعينيات حتى عام 1973، والثانى من 73 حتى حرب العراق عام 91، أما الجزء الثالث والأخير من المسلسل فيرصد الفترة من عام 1991 حتى قيام ثورة 25 يناير.
فى ظل العشوائية التى تحدثت عنها فيما سبق.. كيف ترى مستقبل الثقافة والإبداع فى مصر والمحيط العربى ككل؟
هذه الدنيا التى نعيشها لها صانع ماهر، فالله موجد ويعطى من تجليه صفاته موهبةً للناس، لذا سيظل الإبداع الفنى المتميز موجود حتى قيام الساعة، وفى ظل هذه العتمة التى نعايشها الآن كل إبداع جيد بمثابة "كشاف"، فنحن حقيقة نعيش فى "زمن الكشافات" التى تنير بعضاً من الظلام والعشوائية التى يغرق فيها المجتمع ككل، والمثقف بشكل خاص، أعتقد أنه فى كل فترة هناك من يختاره الله ويجعل وظيفته حمل الشعلة المضيئة، فالفنان سواء كان روائيا أو رساماً أوسينمائياً هو ضرورة من ضروريات الحياة.
ناصر عبد الرحمن وياسر ابو جامع
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة