العمل فى الإسلام قيمة فى ذاته، وقد حث شرعنا الحنيف على العمل فقال تعالى: «وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله»، وهو مدار التقييم والحكم على الإنسان فى الدنيا حتى فيما يتعلق بدرجة التدين، فقد روى عن النبى، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان»، ولا يكتمل الإيمان ولا يسلم الاعتقاد من دون العمل، لقوله، صلى الله عليه وسلم: «الإيمان ما وقر فى القلب وصدّقه العمل»، ولا يوجد فى ميزان الشرع عمل للعبادة وعمل للعادة، بل العادة تكون فى ميزان العبادة إذا قُرنت بنيتها، لما روى عن النبى، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «إنك لا تعمل عملا تبتغى به وجه الله إلا أُجرت عليه حتى ما يجعل الرجل فى فى زوجته». وأعمال المعاش أكثر ثوابا من نوافل العبادات، فقد رأى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، صحابيا ملازما للمسجد يكاد لا يخرج منه فسأله: ألك زوجة؟ قال: نعم. فقال: ألك ولد؟ قال: نعم. فقال: من يطعمهم؟ قال: أخى. فقال: هو أعبد منك.
هكذا ينظر الإسلام إلى العمل كقيمة فى ذاته مكمل لإيمان المرء ودليل على صدق اعتقاده وضرورة للمعاش وتنمية البشر، ولذا فإن أعمال العادة لا تنقطع ولا ترفع عن عابد مهما بلغ من منزلة ولو شهد له الخلق أجمعين أنه أعبد أهل الأرض فى زمانه، ولو كانت ترفع عن أحد كما يزعم بعض الجهلاء لكان أولى بها من ضمن له ربه الفردوس الأعلى غافرا له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو رسولنا الكريم الذى كان يقوم من الليل حتى تتورم قدماه، ويصوم حتى يظن الناس أنه لا يفطر، ويعطى عطاء من لا يخشى الفقر، وحين كان يُطلب منه، صلى الله عليه وسلم، الترفق بنفسه، حيث غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، كان يقول: «أفلا أكون عبدا شكورا؟!».
والعمل قيمة فى ذاته، حيث إن السعى على الرزق يعد من العبادة ما دام صاحبه نوى به القيام بواجباته نحو من يعول وإغناء نفسه عن العوز ومذلة الحاجة والسؤال، بل هو قيمة فى ذاته حيث يكون المرء نافعا لنفسه ومجتمعه وفاعلا فى بنائه ورقيه، فالبطالة عيب فى حق صاحبها، وإن كان غنيا ليس فى حاجة للمال متى وجد سبيلا للعمل، وكل عمل يجعل المرء فاعلا فى مجتمعه نافعا لنفسه أو لغيره أو لهما معا مما لا يضر بالغير ولا يبتعد عن دائرة المشروع، هو عمل مقدر فى شريعتنا يرفع من شأن صاحبه ولو كان من الأعمال الدنيا فى ميزان الناس، فلا ينقص من قيمة حامل المؤهل العالى أو الدرجة العلمية أن يعمل فى أى عمل يغنيه عن سؤال الناس، ولو كان بسيطا وغير مناسب، وذلك لأن قبوله لعمل فى غير مجال تخصصه هو أشرف له من سؤاله الناس واعتماده على الغير فى انتظار عمل يناسبه وإن كان أباه أو أمه، فضلا عن إخوته أو أخواته أو سائر قرابته أو غيرهم، وقد لا يأتى هذا العمل حتى بلوغه سن المعاش. ومن ثم، يجب على الإنسان أن يغنى نفسه ومن يعول ذل الحاجة والسؤال بالعمل الحلال وإن كان بسيطا وغير مناسب، كما يجب على المعنيين وضع الخطط التى تكفل الاستفادة فى التخصصات المختلفة من أصحاب المؤهلات العليا والدرجات العلمية الذين قضوا رحلة طويلة وشاقة للحصول على هذه الشهادات، أما هؤلاء الذين لا يقبلون بأعمال لا تتناسب ومؤهلاتهم العلمية ويرضون بالاعتماد على غيرهم منتظرين قطار التعيين، فأسوق لهم هذه القصة المعبرة:
بينما كان الأصمعى، وهو من هو فى اللغة والأدب وغيرهما، يسير ذات يوم، سمع أحد الفتيان يقول وهو ينظف كنيفا، قبل ظهور الحمامات الحديثة الآن، ويستخرج القاذورات منه ليكون صالحا للاستخدام: أضاعونى وأى فتًى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر.. وهذا البيت من قصيدة لشاعر فارسى عاش مدافعا عن قومه حتى وقع فى الأسر فظن أنهم سيهبون لتخليصه، لكنهم لم يهتموا لأمره وتركوه حتى كاد يموت، فأنشد هذه القصيدة راثيا نفسه، فقال الأصمعى للغلام: يا فتى، ما لك أنت والثغور؟ إن كنت تقصد أنك أهل للكنف فذاك. فقال الفتى : أصون نفسى أن تهان. فزاد استغراب الأصمعى فرد عليه قائلا: يا فتى، إن كانت نفسك عزيزة عليك حقا، فلمَ وضعتها فى هذا المكان؟! وهل هناك أقذر منه يمكن أن تهينها فيه ؟! قال: نعم: فقال الأصمعى متعجبا: فما هو؟! قال الفتى: الحاجة إليك وإلى أمثالك! فسكت الأصمعى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة