الوضع فى العراق بات معقداً بعد نتائج الاستفتاء الأخير لكردستان العراق، فالمنطقة يبدو وكأنها مقبلة على شتاء غاية فى السخونة، فمن بغداد سمعنا الكثير من التهديدات، ومن أنقرة انطلق الوعيد، وفى طهران لم يكتف الإيرانيون بوضعية المتفرج، بل شاركوا حكومتى بغداد وأنقرة مخاوفهما من الدولة الوليدة التى ينوى الأكراد تأسيسها.
بعيداً عن هذه الأجواء السياسية الملتهبة، والوعيد والتهديد، والردود الكردية التى لا يبدو أنها مبشرة بخير فى المستقبل، علينا أن نعيد قراءة الواقع من زاوية أخرى، ربما ليست غائبة عن المتابعين بدقة لما يحدث فى كردستان العراق، لكنها تائهة وسط السيناريوهات الكثيرة المطروحة فى سقف الأزمة.
ربما أختلف كثيراً مع القائلين إن دولة كردية أصبحت على الأبواب اعتمادا على نتائج الاستفتاء الأخير، الذى قالت حكومة كردستان: إن %92 من المشاركين فيه قالوا نعم للانفصال عن دولة العراق «الأم»، فأنا ممن يرون أن هذا الاستفتاء ما هو إلا ورقة سيحاول قادة الإقليم الاستفادة منها للضغط على بغداد أولاً، وثانياً على دول الجوار، وتحديداً تركيا وإيران، وثالثاً البحث عن مصادر تمويل جديدة من الدول الكبرى.
أقول إن الاستفتاء ورقة ضغط فقط لعدة أسباب أهمها، أنه لا يوجد أى اعتراف دولى ولن يكون هناك اعتراف على الأقل بناء على الاستفتاء الأخير الذى جرى بعيداً عن أى رقابة دولية، وشابه الكثير من المشاكل التى رصدها الإعلام الأجنبى، منها تهديد قرى بأكملها إما بالتصويت لصالح الانفصال أو التهجير، وهو ما يشكك فى شرعية حاول الأكراد البحث عنها من وراء استفتائهم المحلى.
من يتابع الردود الدولية سيجد تحفظا ورفضا كاملا لما حدث فى كردستان، ولم تشذ عن هذه القاعدة سوى إسرائيل التى لها علاقات وثيقة وقديمة مع الأقليم، وباتت الآن أكثر مروج لفكرة قيام دولة كردية مستقلة، لعدة أسباب منها أنها تريد ضرب استقرار دولة العراق التى شهدت الشهور الماضية عودة قوية وتدريجية للدولة القوية المستقرة، بعدما نجحت بغداد فى إعادة السيطرة مرة أخرى على المدن التى كانت خاضعة لسيطرة تنظيم داعش الإرهابى، وهو ما أعطى مؤشرا على أن العراق القوية فى طريقها للعودة مرة أخرى، وهو ما أزعج تل أبيب التى راحت تبحث عما يشغل العراق، فلم تجد أقوى من الورقة الكردية التى ستفيد إسرائيل أيضاً فى أنها ستجعلها على حدود إيران، فمن المعروف أن لتل أبيب مستشارين عسكريين وسياسيين وأمنيين واقتصاديين فى أربيل، وحال قيام دولة مستقلة للأكراد سيزداد الوجود الإسرائيلى، وهو ما تفكر به تل أبيب بأن يكون لها موطئ قدم على الحدود مع إيران للرد على الوجود الإيرانى على الحدود الإسرائيلية عبر التحالف الإيرانى مع حزب الله اللبنانى والنظام السورى.
أمر آخر تبحث عنه تل أبيب من الورقة الكردية، وهو تغذية نزعة الانفصال لدى الأقليات فى الشرق الأوسط، وهو ما يقضى على فكرة الدول الكبرى، كما فعلت فى السودان حينما استغلت سوء تصرف حكومة الخرطوم وقدمت تل أبيب المساعدة للجنوب إلى أن تحقق لهم الانفصال فى دولة مستقلة، نعم مصابة بداء الهشاشة، لكنها فى النهاية وجهت ضربة قاضية لدولة عربية، بل منحت الأمل للعديد من الأقليات فى الاستقلال، خاصة الأقلية التركية.
كل المؤشرات تؤكد أن إسرائيل هى الدولة الوحيدة المرحبة والداعمة لاستفتاء الأكراد، وأن الباقيين ليسوا فى وضعية الترحيب، وهو ما ينتبه له الأكراد جيداً، لذلك فهم يفكرون فى تحقيق فوائد سياسية واقتصادية من نتائج هذا الاستفتاء، وهذه النتائج ستظهر خلال الفترة المقبلة بعدما ينخرط الأكراد فى حوار مباشر مع حكومة بغداد، وربما لاحقا تنضم تركيا وإيران إلى هذا الحوار، باعتبار أن الدولتين أكثر المتضررين حال انفصال كردستان العراق.
أتوقع أن ينخرط الجميع فى حوار ينتج عنه مجموعة من المكاسب التى وضعها الأكراد أمام أعينهم، حينما قرروا اللجوء إلى فكرة الاستفتاء المحلى، فالأكراد ليسوا فى وضعية تسمح لهم بمعاداة الجميع، خاصة دول الجوار والدول العربية الكبرى التى خرجت وأعلنتها صريحة أنها تقف خلف وحدة واستقرار العراق، لذلك فإننى أتوقع أن يقبل الأكراد ومعهم الحكومة المركزية ببغداد دعوة الأمين العام للأمم المتحدة وواشنطن بالانخراط فى حوار مباشر، على أن ينتهى هذا الحوار بالقبول بمطالب الأكراد السياسية والاقتصادية، وأهمها بالطبع أن تتنازل الحكومة المركزية عن منطقة كركوك «شمال» الغنية بالنفط، ومناطق فى محافظات نينوى «شمال» وديالى وصلاح الدين لإقليم كردستان، شريطة أن يبقى الإقليم ضمن الدولة العراقية الفيدرالية، لكن فى نفس الوقت ستظل ورقة الاستفتاء موجودة فى أيديهم لاستغلالها فى أى وقت للضغط على بغداد أو الجيران.
كلنا ندرك ما تعرض له الأكراد من مشاكل، سواء على يد نظام صدام حسين فى العراق، أو ما يتعرض له أكراد إيران وتركيا من اضطهاد ممنهج، لكن الأكراد أنفسهم يدركون جيداً أن ورقة الانفصال ليست هى البديل المناسب، حتى وإن كانت الأجواء كلها مهيأة لنجاح دولتهم المزعومة، لأن القضية لا تتعلق فقط بقدرة الإقليم على تنظيم حياته اليومية، أو توقيع اتفاقيات اقتصادية مع دول بعينها، وإنما الموضوع أبعد من ذلك، ويتعلق بقدرة هذه الدولة على الحياة بشكل طبيعى وسط جيرانها، ولا أعتقد أن الأكراد يريدون تكرار النموذج الإسرائيلى المنبوذ من الجميع، فالأكراد أصحاب قضية، ولم يغتصبوا أرض أحد، لكن فى نفس الوقت لا يقبل جيرانهم بوضعية الاستقلال، لأنها ستكون أكبر مهدد لأمن واستقرار كل دول المنطقة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة