فى الستينيات أرسل الرئيس جمال عبدالناصر المبعوثين المصريين فى العلوم الإنسانية والاجتماعية والسياسية إلى أمريكا، رغم عدائه الشديد لها، وأرسل المبعوثين فى الكيمياء والطب والعلوم إلى روسيا، رغم صداقته الشديدة لها.. لم يفعل ذلك عشوائيا وإنما لضبط إيقاع العقل المصرى، بعيداً عن الأفكار الشيوعية، ولثقته فى أن الثقافة الغربية هى الأكثر ملاءمة لمصر، وعاد إلى البلاد معظم الأسماء اللامعة التى تبوأت مناصب مهمة فى الدولة بعد ذلك.
أمريكا لم تفهم عبد الناصر وناصبته العداء، من أجل عيون إسرائيل.. فلماذا تعود واشنطن إلى نفس الدور المشبوه فى السنوات الأخيرة، ظنا منها أن بمقدورها أن تغير نظام الحكم وتأتى بالإخوان، دون أن تدرك أن عقليتها القديمة يجب أن تتغير، حتى لا تنسف جسورا تحرص القاهرة على بقائها.
انتهت إلى الأبد فكرة فرض نظام حكم حسب إرادة أمريكا، فالمصريون رغم الظروف الصعبة، متوافقون على استمرار الدولة والحفاظ عليها وتثبيت أركانها.. لم يفرض أحد عليهم ذلك، بل بالمعايشة والتجربة وفداحة الأحداث، ودفعوا ثمنا فادحا للربيع الأمريكى الغادر، وأدركوا أن وجودهم فى وطن يعانى من بعض التحديات، أفضل من لا وطن.
وتبعا لذلك ليس مبررا أن تخرج بعض الأصوات الضالة هناك تحيزا لجماعة إرهابية، أذاقت المصريين كؤوسا مرة، وتنفسوا الصعداء حين استردوا وطنهم من أنياب الشيطان، وعندما ينظرون حولهم يدركون أن أمن وطنهم شىء غال يستحق أن يعضوا عليه بالنواجذ.
العلاقات المصرية الأمريكية مهمة للجانبين، فالتجربة والواقع والماضى والحاضر والمستقبل والتاريخ والجغرافيا.. تؤكد أن مصر قوة إقليمية كبرى، وفى يدها مفاتيح كثيرة لا يمكن انتزاعها، وليس فى استطاعة طامح أو طامع أن يجلس على عجلة القيادة بدلاً منها.. فالأدوار لا تشترى بالمال ولا بالمؤامرات، ولا بمزاج سياسيين أمريكيين، حاولوا فى فترة من الزمن أن يجعلوا المنطقة حقل تجارب، لفوضى خلاقة أو ربيع عربى، مصر دولة راسخة، ولا يمكن العبث بمصير شعبها.
أمريكا فيها مئات الآلاف من المصريين، يعيشون من عشرات السنين، وأصبحوا جزءا من المجتمع الأمريكى، ولكن الفارق بينهم وبين الشعوب الأخرى، أن ارتباطهم بوطنهم أقوى من أى شىء آخر.. لم تشغلهم رفاهية الحياة فى أمريكا، عن متابعة أحوال بلدهم، وأسعار الخبز والدواجن والسلع الغذائية والتعويم، بما يعنى أن عداء أمريكا لوطنهم عداء لهم واستهانة بمشاعرهم وحبهم لبلدهم.
ماذا تريد مصر من أمريكا؟.. الصداقة والعلاقات الاستراتيجية والاحترام وعدم التدخل فى الشأن الداخلى.. فهذه هى أهم مفردات الكرامة الوطنية.
«وللحديث بقية»