فى المرحلة الابتدائية فى الستينيات، ما زالت الصورة ماثلة فى ذهنى، عندما كنا نتلقى علب كاكاو وبسكويت وجبنة، مرسوما عليها يدين تتصافحان على إحداها علم مصر، والأخرى علم أمريكا «رمز الصداقة»، وسنبلة وحمامة سلام.. أعتقد أن تلاميذ المدارس الآن تثبت فى أذهانهم صورة مغايرة، عليها قنابل ومتفجرات وجثث متفحمة من الربيع العربى المتناثر حولنا، وشتان بين أمريكا التى كانت صديقة حتى فى سنوات القطيعة والعداء، أيام الرئيس عبد الناصر، وبين أمريكا الآن التى لا تفرق بين الصديق والعدو.
لم يبق من قضية المعونات الأمريكية إلا السمعة السيئة، وفى مصر نشأت طبقة يطلق عليها أثرياء حقوق الإنسان، كان بعضهم فقيراً، وفجأة ظهرت عليه علامات الثراء، ولعب أثرياء المعونة دوراً مشبوهاً، وكانوا سبباً رئيسياً فى زيادة إشعال الحرائق، وآخر سيئاتهم إمداد «هيومان رايتس» بمعلومات ملفقة، تسىء للشرطة المصرية، فحتى سمعة البلاد أصبحت قابلة للبيع والشراء.
الأصل هو مساعدة المجتمع المدنى فى القيام بأنشطة تخدم المجتمع، ولكن الشيطان يكمن فى التفاصيل، فذهبت إلى صُنَّاع الشائعات ومشعلى الحرائق، ومحترفى الفوضى، وترددت أسماء شهيرة حصلت على عشرات الآلاف من الدولارات، بعيداً عن أجهزة الدولة وفى السر والخفاء، ونفَّذوا ما كان يُطلَب منهم.
أرادت أمريكا أن تحوِّل معونات المجتمع المدنى إلى شوكة فى ظهر البلاد، قبل 2011 وبعدها وحتى الآن، وكانت المراكز الحقوقية هى الذراع الخفية لتحقيق أهداف الربيع العربى، لعبوا دور «العقل»، أما «العضلات» فكانوا النشطاء الذين تدربوا فى الخارج على أعمال العنف والتظاهرات، وغطوا جرائمهم بشعارات زائفة حول حقوق الإنسان، التى جعلوها مرتعاً لهدم الدولة ونشر الفوضى.
محامون فاشلون استغلوا المعونات فى تأسيس مراكز تشوِّه صورة القضاء بزعم استقلال القضاء، ومراكز أخرى اخترقت الإعلام، وتعددت صور الاعتداء الجسيمة على هيئات الدولة المستقلة، فى مخطط استبدال الجهات الرسمية بكيانات بديلة، أعطت لنفسها الحق فى التدخل فى شؤون لا تعنيها، والكارثة أن المجتمع استسلم لذلك، دون أن يسأل أحد: من أنتم ومن أعطاكم هذا الحق؟
إذا أرادت أمريكا أن تبنى علاقات جيدة مع مصر، فى حكم الرئيس ترامب، عليها أن تدخل البيوت من أبوابها، ولا تتسلل من الشبابيك أو المنافذ الخلفية، فمصر لن يتغير الحكم فيها بغير إرادة شعبها، وأثبتت تجربة السنوات الأخيرة أن المصريين مهما اختلفوا، فلن يقبلوا حاكماً على دبابة، انتهى عهد الاستعمار إلى غير رجعة، وأدرك الناس أنهم إذا تشاجروا فى وطنهم أفضل ألف مرة من ألا يكون لهم وطن.