فى تلك السلسلة، اقتفينا أثر العائلة المقدسة كقصاصى الأثر الذين يتبعون أثر الخطى فى الصحارى للكشف عن التجار والغزاة، لكننا كنا نحاول الكشف عن الحكاية، كيف سارت العائلة المقدسة فتحولت كل خطوة لكنيسة، وكل جحر لدير، لم تنقطع فيه الزيارات كما الصلوات، ورثت مصر هذا الرصيد الهائل من الكنائس والأديرة، وحفظته الكنيسة القبطية حاملة الرسالة، وحامية الإيمان المسيحى، وسلمته من جيل إلى جيل.
فى هذه السلسلة نستوثق الخريطة، نقلب فى التاريخ، نعود للجغرافيا، نؤمن بالماضى من أجل المستقبل، ونكتب كل حكايات ورثة العائلة المقدسة، وحملة راية الإيمان المسيحى الشرقى، رهبانًا وقساوسة، راهبات وأمهات، باباوات وكهنة، هؤلاء النساك من ارتبطت حياتهم بالصلاة فلم ينقطع نذرهم فى الدنيا، ولا تلاميذهم فى الكنيسة.
فى مسار العائلة المقدسة الذى اعتمده الفاتيكان بالتنسيق مع وزارة السياحة المصرية، نقاط اتفق عليها التاريخ وعززتها الجغرافيا، وبقاع أبرزتها المرويات الشعبية ورأت الكنيسة أن فيها جزءًا من تراثها فضمتها للرحلة.
عبر سلسلة حلقات نقدم لكم ما سمعناه طوال رحلة قص الأثر، وما نقلته الكاميرا، وما سجله الفيديو، وما استطعنا أن نشمه من رائحة، وما رأينا أن نلمسه باليد، وما سمعناه فأربك الأذن وأثار أسئلة فى العقل، وهى على كل حال مجرد محاولة لعلها تفلح.
يوسف النجار يقود الركب.. العائلة المقدسة تقرر الهرب
«فى مزود للبقر ببيت لحم، وضعت العذراء طفلها المسيح، دون أب، وكان يوسف النجار خطيبها قد آمن بما قالت وصدقه، فقرر رعاية تلك الأسرة الصغيرة، وبينما كان الطفل المعجزة يطلق صرخاته الأولى كان هيرودس الملك قد أمر بقتل جميع أطفال أورشليم خشية أن يرث أحدهم ملكه، بعدما نبأه المجوس بذلك.. فى تلك الأجواء الخائفة، ظهر الملاك ليوسف النجار الذى يلقبه الإنجيل بالقديس البار، وقال له فى الحلم: قم وخذ الصبى وأمه واهرب إلى مصر.. وكن هناك حتى أقول لك، فقام وأخذ الصبى وأمه ليلًا وانصرف إلى مصر»، «مت 2 : 13 - 14».
على حمار صغير، وضعت مريم أمتعتها وحملت بين يديها طفلها، بينما كان يوسف قد سبقها على حمار آخر، والعجوز سالومى فى نهاية الركب، كل يحمل أمتعته القليلة، لا يعرف من أمره شيئًا، ولكنه مطمئن، يتمتع بتلك السكينة التى بعثها الله فى نفوس القديسين ليطيعوا أوامره دون جدال أو تفكير.
يقطع الركب صحراء بيت لحم، ويتجه صوب أرض مصر، يقول كتاب السنكسار القبطى المدون به سير القديسين جميعًا، إن العائلة المقدسة سلكت طريقًا رابعًا لم يكن ضمن طرق التجارة بين مصر وفلسطين وقتها، وذلك خوفًا من بطش هيرودس فى رحلة الهروب هذه.
من مدينة الفرما نبدأ رحلة التقصى، الطريق إلى رفح محفوف بالمخاطر، وسط تلك الحرب التى يقودها رجال القوات المسلحة ضد الإرهاب، غير أن صحراء رفح لا تحتفظ بأى آثار يمكن الاستناد إليها فى تلك الرحلة.
الفرما.. أطلال مدينة أثرية وبقايا أعمدة
نصل إلى مدينة الفرما، التابعة إداريًا لمحافظة بورسعيد، المدينة الصغيرة تقع فى منتصف المسافة بين العريش والمدينة الباسلة، وفى تلك البقعة التى تسمى الفرما، تقف سيارتنا بعدما سألنا السكان على الطريق إليها فقالوا: «بتاعت الآثار»، واستطعنا الاستدلال منهم على هاتف مدير الآثار فى بورسعيد، فاصطحبنا إلى هناك.
آثار مدينة الفرما
طارق الحسينى، مدير آثار بورسعيد، قال: «الفرما القديمة اندثرت، وهى تمثل حدود مصر الشمالية الشرقية، وقد عبرت بها العائلة المقدسة، كما كانت بوابة للكثير من الغزاة».
مدينة الفرما الآثرية
وعلى بعد ثلاثة كيلومترات من البحر المتوسط، وبالقرب من مدينة الفرما التى بحثنا فيها عن أثر العذراء، دلنا مدير الآثار على منطقة تسمى تل الفرما، رأينا فيها أنقاض قلعة وبقايا أعمدة قديمة تنتصب فى الصحراء، حتى تقودك إلى أعمدة رخامية تسمى المسرح الرومانى فى المنتصف، تشبه إلى حد كبير المسرح الرومانى بكوم الدكة بالإسكندرية.
أنقاض معبد رومانى بمدينة الفرما
لا أثر لكنائس هنا، يبدو أن العائلة المقدسة لم تستطع احتمال المدينة التى داسها الكثير من الغزاة، فانطلقت إلى محطتها التالية.
تل بسطة.. حين رفض الناس تروية عطش المسيح
مدينة تل بسطة
يسير الركب، ويكمل طريقه، حتى يصل إلى تل بسطة، ويقرر أن يستريح، وأثر تلك الرحلة الشاقة، تحت شمس شهر بشنس الحارقة، وهو الذى يوافق يونيو فى الشهور الميلادية، يتسرب العطش إلى فم الطفل، ويطلب من أمه العذراء أن يشرب، وهم مستظلون تحت شجرة وارفة، يلتقطون أنفاسًا تتسارع من الخوف والمسير.
آثار فرعونية بمدينة تل بسطة
على أطراف مدينة الزقازيق، تقطع بنا السيارة طرقًا زراعية، حتى نصل إلى لافتة «تل بسطة»، وخلفها مدينة تل بسطة الأثرية، تلك المدينة التى كانت تسمى بمدينة الآلهة، ووسط غابة من الحشائش، تنتصب آثار فرعونية، تظهر للعابرين على الطريق، إلا أن باب المنطقة الأثرية كان مقفولًا، وينقل لك الهواء صوت دوى رصاص يأتى من بعيد، فتعرف أن مركزًا لتدريب الشرطة يقبع بالقرب من المنطقة الأثرية التى تسببت التعقيدات الإدارية والروتين فى غلقها أمام الزوار، مثلما يقول هشام عبدالمؤمن، مدير منطقة آثار الشرقية.
مدينة تل بسطة أحد محطات العائلة المقدسة
ولكن عند العائلة المقدسة رواية أخرى، فحين شعر المسيح بالعطش، وطلب من أمه أن يرتوى أساء أهل المدينة معاملته وأهله، مما أتعب نفسية العذراء الشابة، فضرب يوسف النجار بقطعة من الحديد، وانفجر ينبوع جوار الشجرة، وفقًا لما يرويه التقليد القبطى. ينبوع يوسف النجار صار بئرًا كانت الناس تتبارك منها وتزورها، يطلبون الشفاء من الأمراض والزواج وطرد الشياطين حتى وقت قريب، إلى أن ضربت منطقة آثار الشرقية سورًا حول المنطقة الأثرية، فلم يعد هناك طريق للبئر، وفقًا لما يرويه أحد العمال بالمنطقة.
بئر شربت منه العائلة المقدسة
كانت المدينة مليئة بالأوثان التى تكسرت عند قدوم المسيح، وهو ما يؤكده العهد القديم بقوله: «ارتجفت أوثان مصر من هيبة السيد المسيح، وتزلزلت الأرض تحت أقدامه ومالت بثقلها الحجرى فتحطمت وتكسرت أمام رجلى الصبى القادم إلى مصر».
مدينة تل بسطة
وفقًا للخريطة، غادرت العائلة المقدسة تل بسطة إلى الزقازيق، ومنها سارت إلى مسطرد، حيث كنيسة العذراء الأثرية الشهيرة، التى يُقام لها مولد واحتفالات سنوية، تسمى نهضة العذراء أيام صومها.
منطقة تل بسطة الآثرية
مسطرد.. أمنيات حول بئر استحمام المسيح
مسطرد منطقة عشوائية صغيرة فى محافظة القليوبية، تقطع بنا السيارة الطريق، وأمام النيل، يرشدنا أحدهم إلى الكنيسة، التى تختبئ فى زقاق صغير، نعرفه من الخدمات الأمنية حوله، رجال الشرطة يجلسون والبوابات الإلكترونية تفتش الحاضرين.
فى الطريق إلى بئر استحمام المسيح
فى أحد أيام الآحاد، وقبيل صلوات القداس الإلهى الذى ينطلق فى السادسة صباحًا، ندخل الكنيسة مع جموع المصلين، من النساء والأطفال والعجائز من سكان المنطقة، وسائق توك توك يذهب لنقطة محددة ويجىء، ينقل نساء ورجالًا من كبار السن، أستوقفه وأسأله عما يفعل فيقول إنه يعمل مع الكنيسة، وإن هؤلاء القادمين إليها قد جاءوا لحضور قداس خدمة المرضى، الذى يقام بعد قداس باكر.
حول بئر استحمام المسيح
تطلع الكشافة الكنسية على الهويات، وأبلغهم بموعدى مع الكاهن، القمص عبدالمسيح بسيط، ينتظرنى فى مكتبه، يبلغ فرد الكشافة زميله المكلف بخدمة مكتب القس أن صحفيين قد حضرا فيأذن لى بالدخول.
ندخل إلى الكنيسة فتغمرنا روائح البخور، وبعد انتهاء القداس، يرش الكاهن المصلين بالماء المبارك، وتنطلق أصوات الترانيم، «مريم اسمك غالى عليا.. تداوينى بشفاعتك ليا.. قلبك مليان حنية»، فى منتصف الكنيسة استلمت «مريم» المرنمة، التى تحمل اسم العذراء، الميكرفون ووقفت تتبادل تمجيد العذراء مع زميلها مايكل، ويردد من خلفها الزوار.
فى مغارة بئر استحمام المسيح
أمام أعداد من الزوار تدخل وتخرج وتشعل الشموع أمام أيقونة العذراء تارة، وأمام البطل مار جرجس الرومانى تارة أخرى.. تواصل مريم مديحها لأمها العذراء بصوتها العذب، فتسمع صداه فى الكنيسة كلها، ويردد النسوة خلفها: «السلام لك يا مريم» فى عيد يليق بالعذراء أم النور، التى وهبت من بطنها للبشرية مسيحًا.
شموع فى المزار الآثرى
تتكون الكنيسة من مبنى أساسى وفيه صحن الكنيسة، الذى يضم الهياكل والمغارة والبئر، وتضم الكنيسة ثلاثة هياكل، الأوسط برسم العذراء وله حامل أيقونات أثرية، وتعلوه أربع صور لأربعة ملائكة تتوسطهم العذراء وهى تحمل الطفل يسوع، وأربع صور للإنجيليين، والهيكل القبلى برسم مار جرجس، والبحرى برسم يوحنا المعمدان، مع حامل أيقونات على كل منهما، وتعلوها مجموعة من الصور تصور رحلة الآلام والقيامة من خميس العهد إلى الصعود، ويعلو الثانى صور لتلاميذ المسيح وحوارييه، تتوسطهم صورة للمسيح، وعلى يمينه السيدة العذراء، وعلى يساره يوحنا تلميذ المسيح.
فى طريق الخروج من البئر الآثرى
الكنيسة تأسست فى القرن الثانى عشر الميلادى، وكان من تقاليد الآباء البطاركة أن يقيم البطريرك بها قداسًا يوم 21 طوبة بالتاريخ القبطى، وهو يوم وفاة السيدة العذراء، وقد ذكرت كنيسة مسطرد بالكثير من كتب التاريخ الكنسى، وكانت لها مكانة عظيمة بين الكنائس القديمة على مر العصور، حتى إنها كانت تابعة للكرسى البابوى فى القدس حتى سنة 1925، وذلك وفقًا لما ذكرته مراجع تؤرخ لتاريخ الكنيسة، بل كان الكثيرون من الذين يزورون القدس يكملون زيارتهم المقدسة بزيارة هذه الكنيسة.
كشافة الكنيسة يوزعون الماء المبارك
أمام أيقونة مار جرجس يصدح «عزيز»: يا رومانى.. شفاعتك يا سريع الندهة، يحمل على كتفه طفلًا قال إنه يعانى من مرض فى المعدة، كلفه الشفاء منه كثيرًا، وما زال الطفل فى طور العلاج، من طبيب إلى طبيب، شعر «عزيز» بضيق ذات اليد وانسداد الأفق، فجاء للعذراء والقديسين علّهم يشفعون لطفله فيبرأ من آلامه. يقول إنه خصص نذرًا للكنيسة إن شفى بطرس، تقاطعه زوجته التى تؤمن بشفاعة العذراء، وتنتظر منها الحل والفرج، وتصرخ: «شىء لله يا أم النور.. شىء لله يا عذراء». وتخرج من باب الكنيسة، تقابل رجلًا آخر نذر توزيع صور العذراء المباركة على الزوار، يمنحك صورة للعذراء فى زيها الأزرق تفتح ذراعيها للناس حبًا ونورًا، وصورة أخرى لها تحمل مسيحها على صدرها يعد بالخلاص والفداء، وصورة ثالثة المسيح مشرعًا يديه على الصليب، تمر أمامه سيدة يمد لها يده تقبل الصورة، وتضعها على رأسها، ومنها إلى جيبها، وتعبر إلى الداخل.
الزوار يتباركون بماء البئر المقدس
فى ممر جانبى إلى جوار الكنيسة، تحوطه الكشافة الكنسية، التى ترتدى السواد، طريق صغير محاط بالحبال يمر منه العابرون إلى البئر فى طوابير محكمة، تصعد الدرج المبلل بالماء، تجد نفسك أمامه، رجال ونساء وأطفال يرغبون فى الدخول، وحول البئر متطوعون سخروا وقتهم لملء الماء لطالبى البركة فى أكياس بلاستيكية صغيرة يعطى الزائر منها فى طريقه للخروج، ومن الناحية الأخرى صنابير صغيرة يشرب منها الزوار، متصلة بماء البئر العذب.
البئر مستطيلة الشكل، جزؤها الأسفل قديم، مبنى على الطراز البيزنطى، ذو القباب ومحاط بالحوائط السميكة، والجزء العلوى تم تجديده وبناؤه أواخر القرن التاسع عشر الميلادى فى عهد البابا كيرلس الخامس، وجددته الكنيسة سنة 2000 بمناسبة الاحتفال بمرور 2000 سنة على ميلاد المسيح، مثلما قال القمص عبدالمسيح، ويحيط بالبئر فناءان كبيران، كما أن البئر نفسها مغطاة بمفرش رسم عليه لوحة للمسيح والسيدة العذراء ويوسف النجار بعد وصولهم إلى مصر، وتعم روائح البخور حوله فى كل مكان، وتشير المراجع الكنيسة إلى أن البئر لم تكن موجودة فى هذا المكان قبل زيارة المسيح، بل إن الرب يسوع استنبعها لتحل البركة هنا.
أسفل البئر مزار آخر، تنزل إليه عبر سلم أثرى صغير، تشعل الشموع أمام الأيقونات القديمة المتراصة فى كل اتجاه، وتشم رائحة البخور العذبة، وتسمع زغاريد النسوة الفرحة بالزيارة، «شىء لله يا أم النور، ناديتنى وجيتلك يا شفيعة يا عدرا»، تخرج من بينهن المسلمة المحجبة والمسيحية التى تحمل صليبًا كبيرًا على صدرها.
اقرأ غداً.. الحلقة الثانية «قدم المسيح تفجر الماء من الصخر»
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة