تنزل العذراء بقدمها فى مركب خشبى يرسو ناحية «المعادى» فى النيل، وهى تحمل الطفل المسيح على صدرها، بينما يمسك «يوسف النجار» بيد «سالومى» العجوز لكى يساعدها على الاتزان، وهى تستعد للسفر عبر النهر، ستقضى العائلة خمسة أيام فى رحلتها النيلية تلك، تنشر بركتها فى مدن الجنوب، ينبع الطفل بئرًا كانت قد جفت مياهها، ويسند بكفه الصغيرة صخرة كادت أن تسقط على زملائه المسافرين بين الجبال فيتخذ الجبل اسم كفه «جبل الكف»، بعد أن يترك اسمه فى قرية أخرى تسمى بدير أباى ايسوس أو «بيت يسوع» ثم يحرفها العرب إلى دير الجرنوس بعد قرون من مسيرته.
من مركز مغاغة، تأخذنا السيارة إلى قرية «دير الجرنوس» عبر طرق صغيرة ومكسرة، مطبات صناعية أنشأها الأهالى أمام بيوتهم، وحارات ضيقة لا تكفى لمرور سيارتين معًا، نستدل على القرية بعد عناء كبير، وحين نصل نجد كل البيوت قد تزينت بالصليب فوق أبوابها الحديدية، وكأن السكان أرادوا التأكيد على مسيحيتهم فى قرية لا يسكنها المسلمون أبدًا، منذ عشرات السنين ولا يقبل أهلها غرباء بينهم.
سكان دير الجرنوس يعملون بالزراعة والتجارة والنقل، وهى القرية التى شيعت أكبر عدد من الشهداء فى حادث دير الأنبا صموئيل الإرهابى منذ شهور، حيث استشهد سبعة من أبنائها فى طريقهم للعمل بالدير القريب من البلدة الصغيرة.
فى منتصف القرية، تظهر منارة كنيسة السيدة العذراء بدير الجرنوس، قباب ضخمة ومنارة تسد الأفق ترتفع عن المنازل المحيطة بها، تكاد تكون الأعلى بين بيوت الفلاحين والتجار ممن تمكنوا من البناء بالطوب الأحمر بعدما تآكلت مساحات الزرع.
ينفتح باب الكنيسة على فناء واسع، تتداخل فيه المبانى القديمة مع ما بناه الأنبا أغاثون، أسقف مغاغة الحالى، فيها لتستوعب أعدادًا أكبر من المصلين، إذا عُدت خطوتين للوراء ستلاحظ تلك القباب المتجاورة، 12 قبة للكنيسة تمثل تلاميذ المسيح، حوارييه وحاملى رسالته، فوق كل منها صليب يُضاء ليلًا، تعود تلك الكنيسة للقرن العاشر الميلادى.
القمص برنابا، وكيل مطرانية مغاغة، الذى يلقبه إخوته من القساوسة بمؤرخ دير الجرنوس، كانت الكتابة عن تلك الكنيسة ضمن مشروع تخرجه من الكلية الإكليريكية مصنع إنتاج القساوسة فى الكنيسة القبطية، يقول، إن العائلة المقدسة مرت بتلك القرية، حتى إنها سميت «أباى ايسوس»، أى بيت يسوع، ثم تغير اسمها فى القرن الثانى عشر الميلادى إلى دير بيسوس، وصارت تعرف منذ سنوات بدير الجرنوس، وهو الاسم الرسمى لها حاليًا.
يروى القمص برنابا قصة مرور العائلة المقدسة فى تلك الكنيسة يقول، إن العائلة قضت ثلاثة أيام فى هذا المكان قبل أن ترتحل لجبل الطير، بعد أن أنبع المسيح فيها بئرًا حين شعر بالعطش، فضرب يوسف النجار الأرض بعصاه ليتفجر منها الماء.
أما القس شنودة جرجس، كاهن كنيسة العذراء بدير الجرنوس، والذى يخدم فى هذا المكان المقدس منذ سنوات طويلة، فيؤكد أن الكنيسة تسمى بدير الجرنوس نسبة للحياة الرهبانية التى كانت قائمة فيها فى القرن السابع الميلادى ثم هجر الرهبان الدير، وظلت البئر قائمة فيها لتتحول بعد ذلك إلى كنيسة باسم الدير ما زالت تحتفظ حتى اليوم ببقايا من الأعمدة الأثرية وجرن لمعمودية الأطفال وطاحونة عتيقة كان الرهبان يطحنون بين رحاها الغلال ليصنعوا الخبز.
حول البئر التى تقع غرب الكنيسة طائفة من الفلاحين أرادوا التبرك بها، فملأوا منها زجاجات قالوا إنهم سيسقون بها أراضيهم ليطرح الله فيها الخير ببركة «يسوع وأمه العدرا»، أما القس شنودة فأكد أن البئر مصدر بركة للقرية والكثير من الجيران المسلمين فى القرى المحيطة يطلبون منها معجزة الشفاء.
من دير الجرنوس، عبرت العائلة المقدسة الضفة الأخرى من النهر، ولا نعرف على التحديد ما الذى أصابها فى هذا المكان، نغادر إلى مركز سمالوط عن طريق القطار، وحين نصل، نأخذ الطريق الزراعى إلى معدية «بنى خالد» الواصلة بين ضفتى النيل.
تتسمى قرية جبل الطير باسم الدير الأهم فيها، ويعمل غالبية سكانها بالمحاجر التى تحيطها من كل اتجاه، عمال أشداء يستخرجون الرخام والجرانيت الأبيض من بطن الجبل، وقليل منهم يعمل بالزراعة، يدين السكان جميعًا بالمسيحية بعدما هاجرت آخر ثلاث عائلات مسلمة من القرية إلى قرية أخرى يسيطر عليها المسلمون، فاستدعى الأنبا بفنوتيوس، رئيس الدير، كبراءهم ليسأل: هل ضايقهم أحد ولماذا قرروا الهجرة؟ حكاية يرويها لنا العم «ملاك» أحد سكان القرية فى المعدية قبل أن نصل، ويشير إلى أن الجيران المسلمين انضموا لأصهارهم فى القرية المجاورة وباعوا أراضيهم وغادروا رغم أنهم من أهل البلد ولم يتعرض لهم أحد فهم جيران وأشقاء منذ عشرات السنين.
تصعد الكثير من السيارات فوق المعدية بعضها ينقل العمال إلى محاجرهم والبعض الآخر ينقل الخضراوات والفاكهة والبضائع، ننضم لهم بعدما يسدد السائق رسم العبور فى معدية الريس مبروك كوبرى البحر كما كتب عليها، ومنها تظهر صلبان دير جبل الطير واضحة فى الجبل وكأنها نبتت فيه كزرع برى.
حين تقترب المعدية أكثر، ترى سلالم صغيرة محفورة من صخر الجبل، وشجرة عملاقة تهزها الرياح لكنها لا تبارح موضعها، وكأنها تصر على تحدى العوامل الجوية والبقاء لأطول فترة ممكنة.
فى الطريق إلى الضفة الجنوبية للنهر، تتبادر إلى الذهن قصة الطفل المسيح حين كان يسير فوق صفحة النهر نفسه قبل ألفى عام، حينها صرخ أحد زملائه فى المركب لما رأى صخرة من الجبل كادت تقع عليه تهشم رأسه، فما كان من الطفل المبارك إلا أن وضع يده فوق الصخرة ليسندها فانطبعت أصابعه الصغيرة فى الصخر، وسمى الجبل بجبل الكف قبل أن يتبدل اسمه إلى جبل الطير، بسبب تلك الطيور الغريبة التى كانت تأتى سنوياً وتستقر على سفح الجبل وتنقر بمنقارها فى صدعه، وكل طائر يمسك بالجبل يرفرف بجناحه حتى الموت، ومن هنا جاءت التسمية «جبل الطير».
بعد المعدية، يظهر طريق القرية الواصل إلى الدير بالرمل الأبيض، وكأنه يتأهب للرصف، تأخذنا سيارة الدير فى طرقات القرية، ونمشى بمحاذاته، الدير فوقنا ونسير فى الطريق إلى بوابته الرئيسية حوالى كيلو متر، ثم نلج إلى عالم العائلة المقدسة مرة أخرى.
ينفتح باب الدير على ساحة رملية، على يمينها مكتبة تبيع التذكارات والكتب المسيحية، ترعاها «مكرسة» تردد ترانيم مسيحية، وهى تمارس عملها اليومى، ثم يظهر جوارها رجال الشرطة، بملابسهم الأغمق قليلًا من رمل الصحراء، كان أحدهم يؤدى صلاة الظهر حين وصلنا، وأمامه قبة الدير يعلوها صليب، يولى وجهه صوب الكعبة كفرض صلوات المسلمين ولكنه يحمى بقلبه وسلاحه دير الأقباط كفرض واجبه الوطنى، وإلى جواره مفتشى الآثار يجلسون على باب الكنيسة الأثرية.
نصل الكنيسة، ويستقبلنا القس ساوفيلوس، وهو نجل القمص متى، راعى كنيسة جبل الطير منذ سنوات طويلة، لديه ثلاثة أبناء وهبهم جميعًا لخدمة المسيح، أحدهم يخدم بكنيسة مجاورة، والثالث بمركز مغاغة القريب، يستحق القمص متى لقب أبو الآباء.
«تتسم كنيستنا بأنها الكنيسة الوحيدة المحفورة فى الجبل، وهى عبارة عن صخرة واحدة تم تفريغها إلى أربعة حوائط صخرية، وبالصحن 10 أعمدة صخرية، وفى عام 1938 تم تجديد وبناء الطابقين الثانى والثالث بالكنيسة»، يقول القس ساوفيلوس الذى يحفظ تاريخ الكنيسة منذ طفولته على يد أبيه، ويشير إلى أن الحجر الذى انطبع عليه كف المسيح كان موجودًا فى الدير حتى إذا جاء عصر الاحتلال البريطانى سُرق ولم يعُد، ولكنه محفوظ فى أحد متاحف المملكة المتحدة.
فى عام 328م جاءت إلى الجبل الملكة هيلانة أم الملك قسطنطين الأول، وعندما علمت من الأهالى أن العائلة المقدسة زارت هذه المنطقة واختبأت فى المغارة، أمرت بنحت وتفريغ الصخرة المحيطة بالمغارة على نظام طقس الكنيسة الأرثوذكسية، وأطلقت عليها اسم كنيسة السيدة العذراء، يواصل القس ساوفيلوس، ويشير إلى أن الدير يضم الآن أربع كنائس، الأولى باسم العذراء وهى الكنيسة الأثرية، والثانية باسم العائلة المقدسة، والثالثة باسم القديس يوسف النجار، والرابعة باسم القديسة سالومى، والخامسة باسم كنيسة الهروب، ليتذكر الناس تلك الرحلة الشاقة التى قطعها المسيح بين ربوع بلادهم.
تزدحم الكنيسة بالكثير من الأيقونات، بعضها أثرى والبعض الآخر جلبه المحبون شفاعة لموتاهم، ففى كل أيقونة تجد اسم من أهداها مكتوبا بخط صغير فوقها، وفى زاوية صغيرة من الكنيسة مزار للعذراء فى قلب الجبل، ترك عنده المحبون طلباتهم ورسائلهم التى اعتادوا أن يكتبونها لأم النور بخط اليد ربما تخرج يديها من الأيقونة المعلقة فى المغارة وتحمل رسائلهم من الأرض إلى السماء، وإلى جوار الرسائل صندوق النذور، تحب العذراء المعطاءين، تذهب أموال الكنيسة لإخوة الرب، وهو تعبير إنجيلى يطلق على الفقراء الذين تعولهم الكنيسة.
ضمن أيقونات الدير أيقونة حديثة للعذراء تحيطها النجوم لأنها السماء الثانية فى الإنجيل، وفوقها تاج لأنها الملكة، وحولها حمامة لأنها تسمى بحمامة الروح القدس، وهكذا تحاط العذراء بكل ألقابها فى الكتاب المقدس التى تتجاوز المائة لقب، أهمها الممتلئة نعمة، والحمامة الذى يحلو للبسطاء ترديده.
وعلى الحائط أيضًا، أيقونة مزدحمة بالأطفال، يقول القس، إنهم أطفال بيت لحم الشهداء، الذين قتلوا فداء للمسيح حين كان هيرودس الملك وجنوده يبحثون عنه بين المواليد، فقتل كل هؤلاء، وفى وسط الكنيسة عمود صخرى، فى قلبه معمودية حجرية يقول القس إنها محفورة فى العمود لا تستخدم فيها المياه حاليًا خوفًا من انهيارها وتحللها.
نغادر الكنيسة الصخرية، ونصعد قليلًا صوب كنيسة الهروب التى بنيت حديثًا فوق الجبل بقبة عملاقة، وإلى جوارها مغارة جبلية أخرى تؤدى إلى السلم الذى رأيناه من خارج الدير، يسمى الناس السلم بـ«سلم العذراء» ويقول العامل، إن السلم كان المدخل الوحيد المؤدى للدير قديمًا، أما تلك المغارة الغامضة التى تضطر فيها أن تحنى رأسك كى تعبر داخلها وسط تعرجات صخرية، يقول عامل بالدير، إن بركة تلك المغارة تساعد النساء على الحبل إذا تأخرن فيه، فكن يدخلن من يمين المغارة ويخرجن من يسارها عدة مرات وهن ينادين العذراء.
بعد المغارة إلى أعلى، ما أسماه القس ساوفيلوس «البكرة»، وهى آلة قديمة لسحب الماء من أسفل الجبل لأعلاه، حيث كانت المياه الجوفية تندفع من أسفله إلى أن جفت أو توقف الناس عن سحبها.
نصعد عدة درجات فى مبانى الدير الحديثة التى تختلط بالقديمة، لنجد أنفسنا أعلى سفح الجبل، نرى منه الأراضى الزراعية الكثيرة التى تحيط بالدير، وهذا النخل الذى ينبت فى بطن الصخر بإصرار عجيب على البقاء.
نغادر الدير، نعبر إلى الضفة الغربية مرة أخرى، كما ستفعل العائلة المقدسة فى الحلقة القادمة، لن يطول بها المقام فى قرى أسيوط كثيرًا، حتى تبلغ الموضع الذى جاء المسيح لأجله «الدير المحرق»، حيث أول كنيسة فى التاريخ كله.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة