وفى أحد الأيام استيقظت نجاة من نومها لتجد فى بريدها رسالة من شاعر سورى كان بين عائلته وعائلتها علاقة قديمة، فتحت الرسالة فوجدت بها قصيدة، فى البداية استصعبتها، وبعد قليل عرضتها على كبار الملحنين لتعرف هل من الممكن أن يتم تلحينها، فأجابها الملحنون: لا يمكن، ولما لم تعرف ماذا تفعل بها أرسلتها إلى إحدى الصحف لنشرها، فاتصل بها «عبدالوهاب» ليقول لها تعالى بعد ساعتين علشان أنا لحنت القصيدة، كانت هذه «أيظن» التى أهداها لها الشاعر نزار قبانى بداية الانطلاق فى غناء القصائد التى جسدت بها آلام الحب ومعاناته وتقلباته.
ما بين حنان صوت «نجاة» وقسوة حياتها مفارقة كبيرة، فكيف يقدر هذا الصوت الحنون الدافئ أن يمنح سامعيه الألفة والبهجة، برغم أن صاحبته ظلت محرومة منه، واكتفت بسكونها وصمتها، حتى أن نزار قبانى قال عن صوتها: «صوت نجاة بالنسبة لى يعبر عن أعماق الأنثى الضعيفة الخجول التى تخاف من البوح عما فى عالمها الذاتى من أحاسيس»، ووافقه فى هذا الملحن الكبير محمد عبدالوهاب الذى أطلق عليها اسم «صاحبة السكون الصاخب».
ولم يكن هذا اللقب هو الوحيد فى حياة نجاة، فأطلق عليها عدة ألقاب أهمها «عصفورة الجنة» و«صاحبة الصوت المخملى» «الصوت الحنون» «صوت الحب» «الضوء والشموع» «همس الرومانسية» كل هذه الألقاب وغيرها هى بالتأكيد تستحقها، لكن فى شخصية نجاة الفنية غموض كبير يجعلها تنظر إلى هذه الألقاب من بعيد، وهى قليلة «الكلام» عظيمة الإنجاز.
ومن يتأمل مسيرتها الفنية يجد أنها طوال حياتها ما كانت تسمح لأحد أن يقتحم عليها حاجزها الحريرى، حتى حينما ماتت أختها فى حادث غامض، لم تقل شيئا يذكر، هى سيدة الصمت تمارسه بتلقائية وعفوية متقنة كما لو كانت قد فطرت عليه، ولا تتكلم إلا حبا، فى دأب وإخلاص كانت تعمل لتجعل الحب رسولها ورسالتها، كانت تجتهد فى أن تكون على قدم المساواة مع الشاعر الذى يكتب لها والملحن الذى يبتكر جملة اللحنية، واستعانت على هذا بمصاحبة المثقفين والكتاب أمثال «محمد التابعى»، و«مأمون الشناوى»، و«كامل الشناوى»، و«فكرى أباظة» الذى أطلق عليها اسم نجاة الصغيرة حينما كتب عنها فى بداية مشوارها أنها «نجاة الصغيرة التى تحتاج إلى المزيد من العناية حتى يشتد عودها، كل هذا الدأب والحرص وهذا ما جعلها تقول فى ثقة بعد أن قررت الاعتزال «ابتعادى لن يفقدنى مكانى فى قلوب الناس».
نشر هذا المقال يوم 22 أكتوبر 2009، وأعيد نشره اليوم تحية إلى الفنانة الكبيرة.