أواصل قراءاتى للعلاقات المصرية الأمريكية فى جانبها التاريخى، وذلك استنادًا إلى دائرة المعرفة الدولية خلال الألفية الثالثة، فتحت عنوان «الثقافة والقوة الناعمة.. حروب أفكار فى السياسة الخارجية»، وضع الباحث نزار الفراوى دراسة خطيرة نشرها «مركز برق للأبحاث والدراسات»، حيث تقول الدراسة فى عام 2004، أنشأت الصين مركز «كونفوشيوس» نموذجى باوزبكستان، ثم عرجت على مركز ثان فى سيول. بعد سبع سنوات، كانت شبكة هذه المراكز الثقافية الصينية تعد 300 مركز موزعة على 88 دولة، ضمنها أكثر من عشرين فى القارة الأفريقية، المجال الجيو- اقتصادى الحيوى بالنسبة لبكين، مما يؤكد قناعة القادة بأن الانخراط الثقافى يواكب توطيد الحضور الاقتصادى.
ويبدو أن رجع الصدى، الذى ينبعث من هذه المراكز التى تقدم مختلف أوجه الثقافة الصينية العريقة وتوفر دروس تلقين اللغة الصينية، التى يزداد الطلب عليها، إما فى إطار مشاريع دراسية لمتابعة التعليم بالجامعات الصينية أو أساسا لتسهيل العمليات التجارية لفائدة النخب الاقتصادية المحلية، يشجع الصين على النظر أبعد: الهدف المنظور هو التوفر على ألف مركز كونفوشيوس فى أفق 2020.
من جهة أخرى، سجل لدى الصين تحرك طويل النفس ومحدد الأهداف لدى المنظمات الدولية، وخصوصًا فى قلب اليونسكو، من أجل تسجيل المواقع الصينية فى قوائم التراث العالمى، لتشجيع السياحة الثقافية. تريد بكين أن توظف دبلوماسيتها الثقافية لتبدو كنموذج لتنمية بديلة، بهوية خاصة ودون تبعية لقوة مهيمنة أو تقليد لقصة نجاح سابقة.
لم تكن الألعاب الأولمبية، التى احتضنتها بكين مجرد محطة رياضية عابرة، بل لحظة استراتيجية راهن عليها قادة الصين لتسويق صورة نموذج «مبهر» من خلال المستوى الهندسى للمنشآت الرياضية، ثم أيضا من خلال الحفل الافتتاحى، الذى أشرف عليه المخرج الصينى العالمى زهانغ ييمو.. وفعلا ظل الحفل حديث العالم مدة طويلة، بل طرحت فى الدورة الأولمبية الموالية، التى احتضنتها العاصمة البريطانية لندن مقارنة صبت فى صالح الإبداع الصينى البشرى والتكنولوجى.
كثير من الخبراء المراقبين لتطور القوة الصينية استصغروا هذا الوجه الناعم للقوة الصينية، ومنهم جوزيف ناى الذى قدر أن الصين لا تستثمر كثيرا فى هذا البعد الثقافى العابر للحدود، والحال أن هذا التشخيص لم يصمد طويلا، بل بات مفهوم القوة الناعمة يحضر بقوة خلال العقد الأخير فى أدبيات السياسيين وقادة الحزب الشيوعى.
اليوم، تستثمر بكين فى دعم صناعة السينما ولو فى نطاق حرية مراقبة ترتبط بخدمة صورة الدولة، كما تستغل قوتها الاختراقية الاقتصادية لتصحيح صور نمطية حول هذا المارد «القادم لالتهام الجميع».
يذكر فى هذا السياق إقدام بكين- الصين على شراء الدين العمومى الإسبانى لإثبات أنها فعلت ما لم تفعله أوروبا ولا واشنطن.. كما قدمت مساعدتها للبرتغال واليونان للتأثير على الصورة النمطية لدى الأوروبيين تجاهها.
لكن يبقى- وكما تقول الدراسة- إن القوة الناعمة للصين مازالت فى طورها الجنينى، بل يعتبرها الخبراء الصينيون الحلقة الأضعف حتى الآن بالقياس إلى باقى قطاعات السياسة العامة للدولة، ناهيك عن كونها ستظل معوقة بغياب مجتمع مدنى حر، مما يحرمها من هوامش واسعة لصناعة القوة الناعمة وتصديرها، ويعكس العجز الفادح للصين تجاه أمريكا بخصوص تجارة المنتجات الثقافية، عمق المشكل. فى 2004، استوردت الصين 4068 عنوان كتاب من أمريكا، لكنها لم تصدر سوى 14 عنوانا.. استوردت 2030 كتابا من بريطانيا ولم تصدر لها سوى 16 كتابا، كما استوردت 694 من الجار اليابانى اللدود ولم تصدر له سوى 22 كتابا.
وإجمالا- وحسب الدراسة -باتت القوة الناعمة شأنا دبلوماسيا مهما فى الرؤية الصينية لموقعها على خريطة القوى العالمية، خصوصًا أن خبراءها يبدون القلق تجاه الهيمنة الأمريكية الثقافية، حتى داخل المجتمع الصينى، وأساسا فى صفوف الأجيال الجديدة من أبناء الصين.. يتمركز هذا الرهاب الأمريكى تجاه سيناريو تطور سلمى هادئ وبطىء نحو تغلغل قيم الليبرالية الغربية فى المجتمع على حساب القيم الخصوصية. لذلك فالقناعة راسخة بأن التنافس الثقافى لا يقل أهمية عن بناء جيش قوى.
إن مقاربة تحولات واقع القوة فى الساحة الدولية تعزز القناعة بأن القوة الناعمة رهان استراتيجى فى التدافع من أجل الريادة.. أمر ينطبق على الوضع الاستراتيجى على الصعيد العالمى، كما على الأصعدة الإقليمية. واليوم، صارت معزولة تلك الأصوات التى طالما استصغرت أهمية الاستثمار فى عناصر أخرى غير القوة العسكرية والاقتصادية لتحقيق المصلحة الوطنية، وبات جليا بالنسبة لدوائر صناعة القرار فى السياسة الخارجية للقوى المؤثرة إقليميا ودوليا أن معارك الأفكار والقلوب لا تقل شراسة وحيوية عن عمليات الحشد والتخطيط زمن المواجهة المسلحة، ولا عن التنافس على الأسواق والموارد من أجل الرفاه الاقتصادى.
إن الانفجار غير المسبوق على مستوى دور الوسائط المعلوماتية والتحقق العملى لمفهوم القرية الكوكبة يصنع مجتمعات مدنية افتراضية ورأيا عامًا عابرًا للحدود، جاهزا للتفاعل مع التدفقات الإعلامية والفكرية والثقافية التى تنهال عليه من كل جانب، ومشكلا القاعدة البشرية المرجحة لشرعية ونجاعة القرارات والسياسات العابرة للحدود.
لكن دون السقوط فى أوهام هذه القوة «الناعمة»، يجدر التأكيد أنها لا تمت بصلة إلى ذلك الحلم الطوباوى المبشر بعالم مفتوح متحرر من منطق النظر إلى العالم كرقعة شطرنج، فإما أن تحتل موقع الآخر أو تخسر موقعك الخاص، ولا علاقة لها بالدعوة إلى علاقات تكاملية تنصاع لنظام دولى عادل ينطبق على الجميع.. إنها جزء صميم من السياسات الخارجية القائمة على الدفاع عن المصلحة القومية وتحقيق منافع على حساب الآخرين. على الأقل كما تمارس فى ساحة دولية شديدة التنافسية، فإن القوة الناعمة ليست استثمارا مجانيا فى فضيلة التبادل الثقافى والإعلامى والإنصات إلى تعددية الأفكار ووجهات النظر. ومن هذا المنطلق، فإن الدبلوماسية الثقافية موجهة أساسا لتغيير أفكار الآخرين فى اتجاه تحدده أولويات المصلحة الوطنية، مما يستوجب الحذر من شعاراتها البراقة.. «يتبع»