أواصل قراءتى للعلاقات المصرية الأمريكية فى جانبها التاريخى، وذلك استنادًا إلى «دائرة المعرفة الدولية خلال الألفية الثالث»، وهنا نشير إلى مؤتمر حلوان «1924» الذى وضع خطة للعمل للتبشير، وحدد الفئات التى يجب أن يعمل عليها المبشرون وهى أولا شيوخ وطلاب الأزهر، وذلك من خلال الاتصال بطلاب الأزهر وزيارتهم فى منازلهم أو تأسيس أماكن بجوار الأزهر للمبشرين، الذين يجب أن يظهروا حفاوتهم وودهم وتشجيعهم للمناقشات الحرة مع الأزهريين، وثانيا المثقفين، وذلك بإعطائهم عددا كبيراً من الآداب المسيحية بالعربية والإنجليزية، وثالثا العمل بين النساء، ولما كان من الصعب الاتصال بالنساء، فيمكن الاتصال بهم من خلال جمعيات الخريجات، ومركز رعاية الطفولة التى تصل إليه أفقر الأمهات.
وحدد مؤتمر حلوان الوسائل التى يمكن أن يعمل من خلالها المبشر للتنصير وهى: 1 - العمل التبشيرى الطبى. 2 - العمل التعليمى. 3 - العمل التبشيرى المباشر من خلال زيارات المنازل والصلات الاجتماعية والمناقشات العامة التى يمكن أن تكون مثمرة.
والخطة التى نادى بها مؤتمر حلوان اتبعتها الإرسالية الأمريكية فى مصر بالتفصيل لتنصير المسلمين، وبالفعل اتجه المبشرون الأمريكيون نحو الأزهر على اعتبار أن الأزهر معقل الإسلام، وأن الأزهرى الذى يقع فى فخ التبشير يكون عوناً للمبشرين على زيادة التغلغل فى العالم الإسلامى، وأشهر حادثة تبشير أمريكية فى الأزهر كانت عام 1928 وهى حاثة القس الأمريكى زويمر، وكان هذا القس وقتها كبير المبشرين الأمريكيين فى مصر وسوريا وفلسطين، والمسؤول عن تحرير مجلة العالم الإسلامى وواحداً من أقطاب كل مؤتمرات التبشير، التى انعقدت منذ 1910 وعرفت كتاباته بالتعصب والتعسف ضد الإسلام، وكان لدى زويمر تصريح من وزراة الأوقاف المصرية بدخول المساجد واصطحاب العلماء، وهواة الآثار، وقد استغل هذا التصريح فى دخول الأزهر وتوزيع بعض رسائل التبشير فى عام 1926، الأمر الذى دعا مدير المساجد وقتها الشيخ عبدالوهاب خلاف إلى استدعاء زويمر، وإنذاره بسحب التصريح منه وانتهت هذه الحادثة بسلام.
ولكن فى إبريل 1928 ذهب زويمر إلى الأزهر ومعه ثلاثة أجانب من بينهم امرأة، فتتبعه مراقبو الجامع لعلمهم بنشاطه التبشيرى، ودخل حلقة درس الشيخ سرور الزنكلونى أثناء شرحه لسورة براءة، ووزع على الطلبة فى سرية ثلاث رسائل قيل إنها تتضمن تفسيرات مسيحية لآية الكرسى ولأسماء الله الحسنى ثم ترك الحلقة إلى غيرها، وأهاج هذا الأمر نحو ثلاثة آلاف أزهرى، كانوا موجودين وقتها وحرقوا الرسائل واستفزتهم جرأة الرجل الذى يقوم بالتبشير فى صحن أكبر جامع إسلامى، وعم السخط حتى كاد أن يفلت الزمام، لولا روح الضبط التى أشاعها العلماء وسرى خبر الحادث وبلغ الاستياء مبلغه، وأوفد العلماء منهم من قابل مصطفى النحاس رئيس الوزراء طالباً وقف أعمال التبشير فى مصر، ووقف توزيع رسائل المبشرين فى الشوارع ووسائل المواصلات والمنتديات، ونتيجة لذلك سحبت الوزراة تصريح القس زويمر الأمر الذى اضطره أن يصرح باستعداده للاعتذار للأزهر.
ولكن الحادث استمر يشغل الرأى العام فترة طويلة، وجلب الحادث معه سخطاً شديداً ضد التبشير، وقد شارك الأقباط فى حملة السخط هذه إلى جانب المسلمين، فقد كتب كليم أبوسيف معلقاً على حادثة زويمر ومهاجماً دعوى الإنجليز فى حماية الأقليات فى مصر ومنوها لحكمة المسلمين وضبطهم للنفس حيث ذكر أنه «لو حدث مثل حادث زويمر فى أية كنيسة لاستغلته بريطانيا لتأييد دعواها عن تعصب المسلمين» ثم استطرد قائلا: «لا تعتقدوا أيها المسلمون أن الأقباط فى مصر أقل استنكاراً لهذا الحادث منكم، فهم أحرص ما يكون على الألفة والإخاء بينهم وبينكم، ولقد أتى موقف كليم أبوسيف من موقف الأقباك العام المعادى لنشاط الإرساليات التبشيرية فى مصر، التى حاولت أن تبشر الأقباط كذلك، وتحولهم عن الأرثوذكسية كما حاولت أن تحول المسلمين إلى المسيحية فخشى الأقباط والكنيسة القبطية من فقد رعاياها لصالح الإرساليات الأجنبية والأمريكية بشكل خاص، هو الذى جعل الأقباط يؤيدون المسلمين فى معاداتهم للمبشرين انطلاقاً من المصلحة المشتركة.
واستفزت هذه الحادثة الصحافة المصرية، فنشرت صحيفة البلاغ مقالاً لعباس العقاد، سخر فيه من القس زويمر، حيث قال: «لم تدخل الأمريكيات الحديثة فى شىء إلا إحالته من الجد إلى الهزل ومن الوقار إلى الصبيانية، فقد دخلت فى الفن فإذا التمثيل تهريجاً، ودخلت فى الدين، فإذا الدكتور زويمر وأمثاله أضحوكة للتسلية وتراجيديا تنقلب إلى الكوميديا تارة وإلى الميلودراما تارة أخرى ثم سخر من أمريكا التى كانت مجهولة يوم ظهور المسيحية ثم يجىء الأمريكيون إلى وطن المسيح فى الشرق لينقذوا دينه ويجردوا يقينه وبأية وسيلة بهذه الوسائل الفردية التى أظهر فيها السيد زويمر براعة فى المحاكاة تدلك على أنه من قراء طرازان ومن العارفين جد المعرفة بطبائع القردة والنسانيس الصغيرة، فلو أن مسلماً دخل الكنيسة الكبرى فى روما أو فى لندن ليسخر بالمسيحية ويدعو للإسلام لما كان على يقين من العودة إلى حيث أتى، ولكنك أنت تقتحم الأزهر بين المسلمين لتسخر بدينهم وتعتدى على حرماتهم ثم تمضى بسلام لا يمسك سوء، ولا تخسر فيه شيئاً غير وريقاتك التى طرحتها هنا وهناك، فما أدل هذا على حاجة الأجانب إلى الحماية، وما أدل هذا على تحفز المصريين المتعصبين للعدوان.. يتبع.