إن التطلع إلى رؤية الديمقراطية على الأسلوب الأمريكى وهى تستنسخ فى العالم أجمع كان محوراً دائماً فى السياسة الخارجية الأمريكية، وهو ما عبر عنه نيل لويس الكاتب والباحث والمراسل الدبلوماسى فى كبريات الصحف والمجلات الأمريكية فى دراسته عن الديمقراطية الأمريكية التى حاولت بعض إدارات البيت الأبيض على مدى عدة قرون فرضها على العالم، وهو ما جعل المراسل الدبلوماسى نيل لويس يبحث هذه الديمقراطية، حيث يرى أن «الديمقراطية» بمعناها المعروف اليوم وهو «حكم الشعب نفسه بنفسه» مصطلحاً يونانياً قديماً عرف فى أثينا والمدن اليونانية قبل الميلاد «578ق.م- 335ق.م.»، حيث «كان الرجال يجتمعون فى الساحة العامة ويقترحون القوانين ويصوتون عليها، ثم يتم اختيار بعض الرجال، من خلال القرعة، لتنفيذ ما تم الاتفاق عليه».
ومن ثم تطور مفهوم هذا المصطلح بعد اقتباسه فى العصر الحالى، فلم تعد الديمقراطية تعنى حكم الشعب بشكل مباشر، بل بات يقصد بالحكم الشعبى الأجهزة التنفيذية والتشريعية التى ينتخبها الشعب من أجل تمثيله والتحدث باسمه.
ويعود السبب فى دعوة الفلاسفة إلى تطبيق النظام الديمقراطى فى الحكم،إلى الاختلاف الذى وقع بينهم وبين رجال الكنيسة فى فترة من فترات التاريخ، حيث عمدت الكنيسة، تحت ستار الدين، إلى فرض نظم وقوانين ديكتاتورية استبدادية، وقامت بتقييد الحريات وكبت الأفواه، مما جعل الناس يجدون فى المبدأ الديمقراطى القائم على فصل الدين عن الدولة، وإعطاء السيادة والحق للشعب فى أن يحكم نفسه بنفسه، ويسن قوانينه بإرادته المطلقة، منفساً للتخلص من سلطة الكنيسة.
هذه الدعوة إلى الديمقراطية التى حملت لواءها الولايات المتحدة، والتى جعلت منها تارة جزرة تعطيها مكافئة لمؤيدى سياستها والداعيمن لإقتصادها، وجعلت منها تارة أخرى عصا ترفعها فى وجه معارضيها واعدائها، تواجه اليوم معارضة شديدة حتى من داخل بعض تلك الدول التى تمارس تلك الديمقراطية، وذلك لأسباب عديدة، منها:
أولا : إلغاء الخصوصية الفردية والحضارية لكثير من الشعوب خاصة الإسلامية منها التى تملك مشروعاً حضارياً وقانونياً وأخلاقياً خاصاً يمتد فى جدزوره إلى عقيدة إلهية تنظم الحكم وفق رؤية واضحة المعالم والخطوط، تحتكم إلى أمر الله سبحانه وتعالى دون سواه، وذلك استناداً إلى قوله عز وجل: «وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم»، المائدة 49. من هنا فإن المقارنة متعذرة «من الناحية المنهجية بين الإسلام الذى هو دين رسالة تتضمن مبادئ تنظم عبادات الناس وأخلاقهم ومعاملاتهم، وبين الديمقراطية التى هى نظام للحكم وآلية للمشاركة».
ثانيا: فشل النظام الديمقراطى فى الدول التى تطبقه أو تصدره، فقد انتاب بعض هذه الدول الضعف نفسه الذى أصاب الأنظمة الاستبدادية سواء بسواء، حيث خضعت على الصعيد الداخلى إلى سيطرة فئة من النخبة السياسية والاقتصادية التى تملك القدرة الدعائية والمالية الكافية، من أجل الحصول على أصوات الناخبين، وخضعت على الصعيد الخارجى إلى مقتضيات السوق العالمية التى تقوم على حمايتها، وتنظيم شؤونها قوة الولايات المتحدة. إضافة إلى ذلك فإن من الملاحظ فى تلك الدول التى تدافع عن النظام الديمقراطى، وعلى رأسها أمريكا، أن الانتخابات النيابية وحتى الرئيسية لا تغير كثيراً من السياسات المعتمدة فى البلاد التى تخضع لاعتبارات عديدة لا يمكن لأشخاص مهما كانت مكانتهم أن يغيرّروا منها، بهذا يمكن أن نشبه تلك الانتخابات الرئاسية بالمخدرات التى تذهب العقول وتجعل مدمنيها يصلون فى أحلامهم إلى السحاب، بينما هم فى الواقع لم يتجاوزوا حدود المساحة التى يوجدون فيها، وكذلك الأمر بالنسبة للشعب الذى يتوهم بأنه هو الذى انتخب ذلك النائب أو الرئيس الذى وعده بالتغيير ودعم قضاياه، بينما هو فى حقيقة الأمر ليس سوى حجر من أحجار الدومنو التى يحركها «خبراء»، يعملون من وراء الكواليس وفق سياسة ثابتة، يضعون خطوطها الداخلية والخارجية.
أما الناخبون وهم الذى يطلق عليهم اسم «الرأى العام» فليسوا فى الحقيقة كما يقول «الخبراء» الأمريكيون إلا سخفاء جهلة يؤمنون بالخرافات، يشكلون تهديداً للنظام والحكومة الجيدة، لذلك نجد هؤلاء الخبراء يعمدون إلى إخفاء الحقائق عن هذا «الرأى العام»، فليس له أن ينشغل بمعرفة مصالح بلاده المشتركة، بل يترك هذا الأمر «لطبقة متخصصة تتجاوز مصالحها الخاصة الناحية المحلية»، وينصرف هو إلى التمتع بحياته الدنيوية التى تتكفل وسائل الإعلام بتوجيهها وفق سياسة محددة من الخبراء، يقول «فيليب هـ. ميلانسون»، أستاذ العلوم السياسية فى جامعة ماساشوسيتس، واصفاً حال هذا الرأى العام: «حتى فى الأنظمة الديمقراطية هناك معلومات سرية لا يمكن للمواطنين أن يعرفوها لأن الأمن القومى يتوقف عليها».. يتبع.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة