من النقاش الدائر فى دول العالم وحجم وشكل المعارك الدعائية، يتكشف أن الاقتصادات القوية والدول الكبرى لا تكتفى فقط بالعمل لكنها تمارس الدعاية المكثفة لترويج نفسها أولا، ثم لمواجهة منافسيها.
وبعد أن ظلت الحروب الدعائية حتى نهاية الحرب الباردة تدور فى السر، وبطرق غير مباشرة. أصبحت فى عصر التقنية والاتصالات الفائقة تدور من خلال أدوات شبه معلنة، وهو ما تكهن به جوزيف ناى الخبير الأمريكى الذى كشف أن القوى الناعمة فى عصر الاتصالات تأخذ شكلا ومضمونا مختلفا، لافتا إلى أن الولايات المتحدة التى حافظت على تفوقها خلال الحرب الباردة، تواجه تراجعا لصالح قوى جديدة، أو أن منافسيها التقليديين أصبحوا يمتلكون قدرات تمكنهم من المنافسة. وهو ما يتكشف فى الخوف الأوروبى والأمريكى من قدرات روسيا الإلكترونية، ليس من جهة القرصنة، لكن من جانب توجيه الرأى العام البريطانى، أو التلاعب فى الانتخابات الأوروبية.
ولعل واحدة من أكبر الجولات الدعائية بين روسيا وأمريكا، كانت تبنى روسيا لأدوارد سنودن المنشق وعميل الاستخبارات السابق، الذى كشف عن تجسس أمريكى على زعماء العالم بمافيهم حلفاء لواشنطن وذلك فى عهد الرئيس السابق باراك أوباما.
وقد منحت موسكو سنودن حمايتها واستغلته فى حربها الدعائية ضد أمريكا. ونفس الأمر مع وثائق ويكيليكس التى أطلقها جوليان أسانج ولم تكن بعيدة عن الحروب الدعائية. ومن ضمن نفس الحرب كانت تسريبات ما سمى وثائق بنما التى دعمتها منظمات ومؤسسات إعلامية وسياسية وصورتها على أنها من بين جهود الاستقصاء الإعلامى، وكانت فى جزء منها أحد فصول الحرب الدعائية، ولم تنجح فى تحقيق الكثير من الرواج بالرغم من الحملة الإعلانية الضخمة التى نظمتها تكتلات إعلامية كبرى، وتم تجييش مؤسسات فى دول العالم المختلفة، ضمن حملة علاقات عامة كانت تمثل فصلا من فصول الحرب الدعائية بين روسيا والولايات المتحدة حيث كان الرئيس الروسى فلاديمير بوتين من بين المستهدفين لكن المفارقة أن بعض القيادات الأوروبية سقطوا فى فضيحة وثائق بنما وفقدت تأثيرها ودخلت فى حيز النسيان.
وكل هذا يعكسه ما يجرى اليوم بين أمريكا وأوروبا وروسيا من جهة أخرى، وبلغ ذروته فى الاتهامات الأوروبية للروس بالتدخل إلكترونيا فى توجيه الرأى العام. وآخرها الاتهامات البريطانية التى ساقتها رئيسة الوزراء تريز ماى مباشرة ضد روسيا ومن قبل أشارت المستشارة الألمانية ميركيل إلى تدخلات روسية فى الانتخابات الأوروبية ونفس الأمر بدرجات مختلفة فى فرنسا وإسبانيا. وإذا كان هذا هو حال الدول الكبرى فهو تأكيد على أن الحروب الدعائية انعكاس للمنافسة الاقتصادية والسياسية وصراع النفوذ.
تجاوزت الاتهامات القرصنة والتجسس الإلكترونى، إلى اتهامات بالتدخل والتضليل لتوجيه الرأى العام. وإحيانا تنضم المنظمات الأهلية الأمريكية وتتخلى عن حيادها لتدخل فى المعارك الدعائية، وتجيد الولايات المتحدة استعمال منظمات مثل فريدوم هاوس أو تقارير الخارجية، فى إصدار تقارير مسيسة، فيما يتعلق بزوايا حقوق الإنسان. واعتادت المنظمات الأمريكية إطلاق تقارير عن حالة حقوق الإنسان فى الصين، بينما تتجاهل من يمكن وصفهم بحلفاء الولايات المتحدة من الأنظمة المتسلطة.
ومؤخرا توصلت بعض الدول ومنها قطر، إلى شراء بعض هذه المنظمات الحقوقية والبحثية مباشرة أو بشكل غير مباشر، مثل افتتاح أفرع لمراكز الأبحاث الأمريكية ومنها كارنيجى فى الدوحة وذلك حتى يضمن المشترى صمت هذه المنظمات والمراكز أو يوظف هذه المنظمات لإصدار تقارير انتقامية، ذات صبغة بحثية أو حقوقية وهى نوع من الابتزاز. ولعل هذا يفسر ظهور الكثير من التقارير المسيسة من منظمات حقوقية أو بحثية، أفقدت هذه المنظمات صورتها وسمعتها.
وإذا كانت الحروب الدعائية الباردة تشغل دول العالم، فمن الطبيعى أن تسعى كل دولة لامتلاك الأدوات القادرة على الصمود فى صراع ليس سهلا. ولا تنفع معه عمليات التجييش والأساليب الدعائية القديمة التى فقدت قوتها حتى مع دول فى حجم الولايات المتحدة وبعض دول أوروبا.