أحب تلك الرائحة، رائحة الأرض، لا أعرف الفرق بين المدن إلا من خلالها، تلك أرض يسكنها الوجع، وتلك أرض تسكنها الخضرة، وتلك أرض يسكنها الموت، وتلك أرض يسكنها العبير، أترقب كل لقاء للأرض بالماء، كما يترقب عزيز زفاف عزيز، حالة كونية من التزاوج الشريف، طهر فى طهر، ينبت طهرا، يبزغ طهرا، نحصد طهرا، نأكل طهرا، ومن بين هذا الطهر كله تفوح الرائحة، وتخرج حكمتها، فتعلق بالصدور كما تعلق الروح بالأبدان.
أحب تلك الرائحة، رائحة الأرض، تتغير فى فصول السنة، تتأهب للشتاء، تتهيب من الربيع، تسكر فى الصيف، وتفوح فى الخريف، أحب تلك الرائحة، رائحة الأرض، تزرع فى عينيك بهجة، وفى قلبك طمأنينة، تناديك يا غائب، وتسكنك يا مواطن، تشتاق كلها كما تشتاق إليك، يفهم المخلصون حديثها بغير مترجم، هما يتكلمان ذات اللغة المنزوعة من الحروف والأصوات، لغة تشبه الموسيقى، وما يعلم تأويلها إلا الراسخون فى حب التراب.
قد تختلف القوانين والدساتير والأعراف، قد تختار أن تنصاع لقانون ما أو لا تنصاع، قد تجتهد فى تغيير قانون أو إلغاء آخر، قد يتحكم فى حياتك قاض بنص مادة فى القانون، بينما يمنحك آخر قبلة الحياة بنص مادة أخرى، تختلف التأويلات، يتبارى الحاكمون والمحكومون فى المرافعة والمعارضة والاستشكال والطعن والمنازعة، لكن الجميع يخضع لقانونها الأبدى، قانون الجاذبية، لا يخالفه أحد مادام على ظهرها، نحن الرعية وهى الراعى، نحن الفروع وهى الأصل، نحن الزائلون وهى الباقية، نحن الراحلون وهى المقيمة.
يظلمها البعض ويعدها واحدة، لكن هذا هو الجحود بعينه، فهى المادة الخام للتنوع، والأساس الجامع لكل مختلف، منها يخرج الزهر والزرع والشجر، وفى قلبها يسكن الماء والزيت والحجر الكريم، ومن طينها يتشكل بشر مختلفة ألوانه، مختلف طباعه، مختلف مشاربه، ولا أعتقد أن سبب الحزن المضاعف على من يموتون فى البحر أو يهلكون فى النار إلا لأنهم تغربوا سيتغربون عن أرضهم لمدة أطول، لكن مهما طال الأجل أو بعد الأمد، سيعود الغائبون إلى أرضهم، كما تعود أرضهم إليهم، ففى حبة التراب روح الحياة، وفى حبة التراب إرث الأبناء، وفى حبة التراب حكمة التاريخ، وفى حبة التراب فرح كامن، ووعد باللقاء.
• نشر هذا المقال فى 9 نوفمبر 2016 بعنوان «حبة تراب» وأعيد نشره بمناسبة أول يوم ممطر فى شتاء 2017.