على الرغم من رحيلها عن عالمنا بجسدها، فمازال عبق أريج فنها المبهج فواحا نديا يجوب الآفاق، ويظل بنفس الزخم العاطفي يشق صدر سماء النغم الغائم، فتفيض أضواء المعانى بألوان قوس قزح المستمدة من رحيق ألوان زهورها المتنوعة، إنها الشحرورة صباح التى نحتفل هذه الأيام بالذكرى الثالثة لرحيلها "10 نوفمبر 1927 - 26 نوفمبر 2014 "، والتى أثرت المكتبة الفنية بالعديد من الأفلام والأغنيات، وسوف تظل علامة بارزة فى تاريخ الفن العربى، وعنوانا بارزا ورئيسيا في قواميس الغناء العربى، ويبقى حضورها طاغيا بقوة من خلال أفلامها وأغنياتها المصورة التي تعد لوحات تشكيلية شاهدة على زمن مضى، حتى أن أغنياتها الآن الأكثر طلبا واستماعا فى محطات الإذاعة المصرية وسط الضجيج والفوضى الشبابية.
قدمت صباح كل ألوان الغناء، سواء العاطفى أو الوطنى، أو الوصفى، وكانت عنوانا للبهجة والدلع الراقى، وكادت واحدة من أغنيات الدلع هذه، وهى "الغاوي ينقط بطاقيته" تتسبب فى طلاقها وإثارة الرأى العام عليها، والحكاية تبدأ عام 1961 حيث طلب نيازى مصطفى مخرج فيلم "جوز مراتي" الذى تقوم ببطولته صباح مع فريد شوقى، من صديقه المخرج والشاعر كمال عطية أن يكتب له أغنية تعبر عن موقف درامى ما في الفيلم، وفى حوار دار بينى وبين المخرج كمال عطية نشر فى جريدة "الحياة" تحدث معي عن ظروف هذه الأغنية التى كتب عنها أيضا فى كتابه " مذكرات أغنية" فقال: رجاني نيازي لكتابة الأغنية، ونظرا لصداقتي لـ "نيازي" وتقديري له كتبتها، وأهديتها مجانا له".
صباح
لكن ما أن عرض الفيلم، وبدأت الإذاعة المصرية تذيع الأغنية، حتى تعرضت للنقد القاسي والجارح من جانب بعض مفتعلى الوطنية، ومدعيى الحفاظ على التغنى بالفضائل، الذين أدعوا أن الأغنية مليئة بالإيحاءات والكلام غير اللائق، وهاجم الأغنية كمال الدين حسين - رئيس مجلس الوزراء فى هذا الوقت - فى جريدة الجمهورية، وأنتقد بقسوة "صباح" ودلعها أثناء تأدية الغنوة على المسرح، وانتقد أيضا كمال عطية شاعر الأغنية وسبه، وتدخلت الصحافة الفنية فى الموضوع وهاجم أحد الصحافيين الأغنية، وقال يعني إيه المطلع الذى يقول :
"بقى دا اسمه كلام / القلب يساع اتنين
وإن كان ده غرام / التاني أوديه فين؟"
وأضاف : "هو القلب ده حلة تتملي وتفيض منها؟ يظهر أن المقصود ليس حلة وإنما هو وعاء بشري، هذه الأغنية مسخرة.
ويعنى أيه : حسونة : أنا مستنية
حسونة : أنا غاوياك غية"
وواصل هجومه قائلا: "الغية هي الإفراط والأعتياد وهذا ليس من أوصاف الحب المتداول فى الأغاني".
وثار البعض وقال : " هذا نوع من الإباحية المرفوضة فى مجتمع عهد نضوج ثورة يوليو، وعبدالناصر يتزعم جيل المكاسب الثورية الجادة وليست الماجنة".
وكان أحد المتشددين فى نقده لهذا الاتجاه الماجن والانحراف بهذه الأغنية إلى المستوى اللأخلاقي ثوريا هو سامي دواد الكاتب الصحفي والعضو المتشدد فى الإتحاد الإشتراكي، لدرجة أنه نقل هذا النقد المتشدد من صفحة الجريدة التى كان يكتب فيها إلى إجتماع مع الرئيس جمال عبدالناصر فى الاتحاد الاشتراكي قاصدا الحصول منه على أمر بمصادرة ومنع الأغنية.
ولكن عبدالناصر رد عليه بقسوة ودافع عن الأغنية ومطربتها حيث قال: " أنا ما أصدرتش أمر بسماع الأغنية وفرضها على الناس، هما أحرار اللي يسمع، يسمع، واللي مش عاجبه زيك كده يا سامي يقفل ودانه أو مايشتريش الأسطوانة، معقول يا سامي أقول لصباح بطلي دلع وأنتي بتغني الأغنية دي، أو بلاش تغنيها، ما ينفعش عيب! يجب إلا نحجر على أحد خصوصا الفنانيين".
وكان الكاتب الكبير موسى صبري، حاضرا هذا الموقف، فكتب فى يومياته فى جريدة " الأخبار" منتقدا " سامي دواد" وأشاد برأي الرئيس جمال عبدالناصر، وبأداء "صباح" الجميل للأغنية التى أصبحت حديث الشارع المصري، ودخل الكاتب والشاعر الكبير كامل الشناوي على الخط وقال بخفة ظله المعهودة فى إفتتاح مقال سياسي نشر له فكتب قائلا: " كتبت هذه الافتتاحية بمزاج صافي جدا لأني كنت أستمع إلى صوت صباح وهى تغني "الغاوي ينقط بطاقيته"، وأنا غاوي أسمع صوت موسيقى عذب، أو صوت إنسان اشتراكي غير متعصب لأنه يصيبني ويصيب الاشتراكية بالتسلط على آذان الجمهور ولوي ذراع سمعه".
ودفاع الكاتب والشاعر جليل البنداري على الأغنية ورد على النقد الذى أثاره البعض بمطلع جديد للأغنية يقترحه بديلا للمطلع المثير لهذا الجدل وهو "الغاوي ينقط بالمدفع يسلم لي قراقوش المصنع".
جدير بالذكر أن الأغنية أثرت على حياة صباح الخاصة ففى هذه الفترة كانت متزوجة من المذيع الشهير الملتزم أحمد فراج صاحب البرنامج الديني " نور على نور"، الذى هددها بالطلاق لو غنت هذه الأغنية مرة ثانية، لأن الناس تنتقده هو، وتسخر منه، ووصل الأمر بينهما أنه طلب منها ألا تقف علي المسرح لتغني وتكتفي بالغناء في السينما، كان هذا الطلب الغريب رد فعل شديد العصبية على الأغنية، لأن في هذه الأغنية تحديداً مقطع بلغت فيه ذروة الدلال والإثارةً وهو: "حسووووووووووونة ما ترد عليا"، وبسبب المحرضات الصوتية علي إثارة الغرائز في هذا المقطع أيضاً، صدر قرار بمنع إذاعة الأغنية في الراديو والتليفزيون معا.!
وبمرور الأيام نسى الناس ما حدث، وأصبحت الأغنية من أجمل الأغنيات التى ترمز للدلال والأنوثة والدلع.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة