مع نفحات مباركة وساعات يستعد فيها المصريون وكل العالم الإسلامى للاحتفال بالذكرى العطرة لمولد الحبيب المصطفى فان المولد النبوى الشريف معين لا ينضب للمدد الثقافى وجديد الكتب والأطروحات.
وتتوالى الطروحات والتأملات والنظرات الثقافية فى الحدث الجليل والذكرى المباركة لمولد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فيما تبقى الثقافة المحمدية "زاد مصر المؤمنة" وهى ثقافة الوسطية الإسلامية بقدر ما تشكل الترياق لعلل التطرف وشرور الإرهاب الظلامى التكفيرى.
ورسالة السماء التى أنزلها الحق فى علاه على خاتم الأنبياء هى بوسطيتها حاضرة فى الحياة اليومية لملايين وملايين المصريين الذين يحبون نبيهم "الصادق الأمين وأسوتهم الحسنة" ويستدعون مواقفه وأحاديثه فى كثير من مواقف حياتهم اليومية.
ولم يكن من الغريب أن تكون الذكرى العطرة لمولد المصطفى نبع الهام لكثير من المبدعين والمفكرين فى العالم ومن بينهم فى مصر أمير الشعراء أحمد شوقى صاحب قصيدة "ولد الهدى فالكائنات ضياء" ناهيك عن المفكر العملاق عباس محمود العقاد وعميد الأدب العربى الدكتور طه حسين فضلا عن آباء ثقافيين مثل الدكتور محمد حسين هيكل وعبد الحميد جودة السحار.
والرسالة المحمدية التى نستدعيها دوما فى أوقات التحديات القاسية والأيام الصعبة والساعات العصيبة هى ثقافة تفكير لا تكفير بقدر ما تحض على الاجتهاد الإنسانى وإعمار الكون وتحث العقل على أهمية فهم المتغيرات وتغيير الواقع نحو الأفضل وتشجع المبادرة والتجديد دون تفريط فى الثوابت.
وفى كتاب صدر بعنوان :"محمد رسول الله : منهج ورسالة-بحث وتحقيق" يقول المؤلف وهو الدكتور محمد الصادق عميد كلية أصول الدين الأسبق بجامعة الأزهر إن "العلم هو العنوان الأول فى رسالة محمد صلى الله عليه وسلم" حيث بدأت الرسالة المحمدية بكلمة السماء فى الذكر الحكيم بأول واعظم عنوان للعلم والمعرفة وبصيغة الأمر المطلق :"اقرأ".
ويوضح الكتاب أن بدء الرسالة المحمدية بطلب القراءة "اعظم شهادة على مكانة العلم فيها" فيما تتحقق المعجزة القرآنية و يبلغ المشهد الخالد ذروة الإعجاز بتوجيه الأمر الإلهى للنبى الحبيب الذى كان أميا لا يعرف القراءة ولا خط بيمينه كتابا.
و"اشراق الوجود البشرى كان ميلادا لمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب فى مهد امه السيدة آمنة واشراق الوجود النبوى ببدء الوحى كان ميلادا لمحمد رسول الله وخاتم النبيين صلوات الله عليه" فيما يضيف الدكتور محمد الصادق عرجون ان "خلوة غار حراء كانت إعدادا لميلاد رسالته" فسيدنا محمد اتخذ من الغار مختلى له "لمناجاة مبدع الكون وخالق الوجود وتمكينا لأنوار النبوة من قلبه بالتأمل فى مظاهر ملكوت الله".
وصاحب الرسالة الخالدة والخاتمة لرسالات السماء ونبى الرحمة " ثكل أباه قبل ان يتشرف الوجود بطلعته وكان هذا الثكل جرحا فى قلب جده عبد المطلب ليستقبل حفيده الذى ملأ فراغ قلبه من مكان ابيه بالحب والبهجة واغتبط بميلاده شاكرا وسماه محمدا" أما النبوة فهى " الحقيقة الالهية الكبرى فى ميلاد جديد للنبي" موضحا انه "ميلاد روحاني" ومولد رسالة عامة خالدة اختار الله تعالى رسولها بعلمه وحكمته وأفاض عليه من خواص غيبه فى أخلاقه وخلائقه ما تعجز الأقلام والألسن عن الإحاطة بشييء من فضله.
ويمضى عميد كلية أصول الدين الأسبق بجامعة الأزهر فى كتابه منوها بأن الرسول الكريم كان إنسانا يتبادل مع الناس مطالب الحياة التى تقتضيها طبيعة البشر "فى دائرة افضل الكمالات التى يمكن أن يكون عليها انسان فى حياته مع الناس والأشياء".
والحبيب المصطفى الذى أرسله الله رحمة للعالمين " لم يقع منه ما يغمط حق العقل الانسانى فى إدراكاته ومعارفه وراح ينشر بين الناس رحمة الله ويربط بينهم بأواصر الإخاء والمحبة والتعاطف والمودة فيما يقول الدكتور محمد الصادق فى هذا الكتاب :"ميلاد الرسالة المحمدية كان ميلادا للحياة".
وإذا كانت إشكاليات مواجهة الفكر المتطرف والمجافى للوسطية الإسلامية كما تجلت فى رسالة الحبيب المصطفى للعالمين ليست وليدة اليوم فلعلنا بحاجة لقراءة جديدة فى تراث مضيء لأعلام الدعاة وكوكبة من علماء الأزهر الشريف وفى طليعتهم الإمام الدكتور عبد الحليم محمود والشيخ محمد متولى الشعراوى والامام جاد الحق على جاد الحق والدكتور احمد حسن الباقوري.
وإذ يطالب الكثير من المثقفين المصريين "بتحديث الخطاب الدينى وإعلاء قيم التنوير والاجتهاد الحر" متفقون على أننا بحاجة إلى "ثورة فكرية لمواجهة الإرهاب الذى يبدأ بدوره من الأفكار" فإن جمهرة المثقفين يدركون أيضا أن الأزهر الشريف بمقدوره القيام بتلك المهمة اتساقا مع دوره العظيم كمنارة إيمانية لها مكانة سامية فى قلوب المصريين وعلى مستوى العالم الإسلامى ككل.