لا خلاف على أن قرار الإدارة الأمريكية الذى صدر الأربعاء الماضى بشأن اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بمدينة القدس المحتلة عاصمةً للدولة القائمة بالاحتلال، إسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية لدى دولة الاحتلال من تل أبيب إلى مدينة القدس المحتلة، يعد أخطر تحدٍّ تواجهه القضية الفلسطينية والعرب بشكل عام، كونه يعيدنا جميعا إلى نقطة الصفر، ويحول الولايات المتحدة من راعى ووسيط للسلام المقترح إلى خصم أعلن انضمامه صراحة للجانب الإسرائيلى، وسار معه على نفس الخط المعرقل لأية عملية تفاوضية مستقبلية مقترحة.
أمام هذا التحدى، فإن التعامل معه يحتاج إلى ما هو أكثر من عملية التجييش التى تجرى حاليا على وسائل التواصل الاجتماعى وفى بعض الأوساط، لأننا إذا اعتمدنا على ذلك فقط واعتبرناها الأسلوب الأمثل للتعامل مع هذا القرار فعلينا من البداية أن نعلن بأنفسنا فشلنا قبل أن نسمعها من الآخرين.
منذ صدور قرار دونالد ترامب وهناك دول تعمل جاهدة على فك طلاسم التحرك الأمريكى المفاجئ لوضع الأطر المناسبة للتعامل مع هذا التطور، فى المقابل نجد دولا تلعب على فكرة التجييش ومخاطبة الشعوب العربية والإسلامية دون أن يكون لها تحرك على المستوى السياسى والدبلوماسى يجنبنا جميعا مساوئ هذا القرار، لكنها اختارت طريقا تعتبره سهلا وغير مكلف بالنسبة لها، فكل ما تفكر به هو مخاطبة العرب والمسلمين بخطب وشعارات رنانة، ويدها الآخر ممدودة لإسرائيل وللولايات المتحدة وتقول لهم إنا معكم.
ما بين الجانبين يمكن رصد عدد من الحقائق التى أستطيع القول إنها تاهت، وسط حالات التجييش واللعب على المشاعر للتغطية على فشل بعض الأنظمة فى مواجهة استحقاقات داخلية أو إقليمية، وهو ما يمكن رصده على سبيل المثال من تصرفات دول بعينها مثل تركيا وقطر، كونهما لم يقدما لفلسطين سوى خطب وشعارات لا علاقة لها مطلقا بما تمارسه الدولتان فى الخفاء مع دولة الاحتلال الإسرائيلى، لكنهما يعتمدون على العاطفة العربية تجاه القدس والقضية الفلسطينية بشكل عام.
أهم حقيقة يجب التعامل معها حاليا هو البعد القانونى لما قامت به الإدارة الأمريكية، وهو البعد الذى نستطيع من خلاله إجبار الولايات المتحدة على التراجع عن قرارها الذى يُعد تحدياً صارخاً لكل المواثيق والأعراف والقرارات الدولية ذات الصِّلة بالقضية الفلسطينية، ويهدد الأمن والسلم الدوليين، ويستفز مشاعر العرب والمسلمين وأحرار العالم، ويؤسس بإرادة منفردة لتغيير الوضع القانونى الحالى لمدينة القدس المحتلة تتحدى إطار المرجعيات الدولية والقرارات الأممية ذات الصلة، وهنا يجب الإشارة للموقف المصرى المعتمد على أدلة وتوثيق قانونى يمكن الاعتماد عليه لمجابهة الإدارة الأمريكية فى كل المحافل والأوساط الدولية، فعلى عكس كل البيانات الدولية، جاء البيان المصرى الذى صدر عن وزارة الخارجية، ومن بعده كلمة مصر أمام جلسة مجلس الأمن مساء الجمعة الماضى، ليؤكد للجميع أن هناك منهجية عمل لابد أن نسير عليها إذا أردنا بالفعل استعادة الحقوق بعيدا عن كل الأقاويل الكاذبة، خاصة أنه لا يرسم فقط وجهة النظر المصرية، لكنه أيضا أعتقد أنه يضع الجميع أمام خارطة طريق واضحة ومفيدة فى ذات الوقت.
مصر فى تحركها تؤكد أن اتخاذ مثل هذه القرارات الأحادية يعد مخالفا لقرارات الشرعية الدولية، ولن يغير من الوضعية القانونية لمدينة القدس باعتبارها واقعة تحت الاحتلال وعدم جواز القيام بأية أعمال من شأنها تغيير الوضع القائم فى المدينة، وطالبت مصر، العالم باستذكار أهم قرارات مجلس الأمن الملزمة، القديم منها والحديث، بشأن القدس، منها على سبيل المثال القرار 242 الذى نص على انسحاب إسرائيل من الأراضى التى احتلتها عام 1967 ومن ضمنها القدس، كما رفض القرار 478 احتلال المدينة بالقوة، واعتبر ما يسمى «بالقانون الأساسى» الذى فرضته إسرائيل انتهاكاً للقانون الدولى ولا يغير من الوضع القانونى للمدينة، ولا يؤثر على انطباق اتفاقية جنيف المعنية بحماية المدنيين فى وقت الحرب على القدس الشريف، فضلاً عن آخر قرارات مجلس الأمن الصادرة فى هذا الشأن، والتى لم يتخط عمرها العام الواحد، وهو القرار 2334 الذى أكد عدم اعتراف المجلس بأى تغير فى خطوط الرابع من يونيو لعام 1967، بما فى ذلك ما يتعلق بالقدس الشريف، إلا من خلال التفاوض بين الأطراف، كذلك، طالب القرار 478 بسحب جميع البعثات الدبلوماسية من مدينة القدس كون المجتمع الدولى لا يعترف بها عاصمة لإسرائيل، وجاء القرار 2334 ليطالب بوضوح جميع الدول بالتفرقة فى تعاملاتها بين الأراضى الإسرائيلية وتلك الأراضى التى احتلت عام 1967 وهى الأراضى التى تتضمن القدس.
تلك القرارات تعد بمثابة القانون الذى يحكم الوضع بالقدس، كما أنها تمثل الحقيقة والمنطق الوحيد فيما يتعلق بالقدس الشريف، ومن المهم أن نشدد عليها فى كل اتصالاتنا وتحركاتنا، والتأكيد للعالم بأن الدعوة للحفاظ على مرجعيات الشرعية الدولية والقانون الدولى ليست من قبيل الترف، خاصة إذا تعلق الأمر بمنطقة مثل الشرق الأوسط، المليئة بالمشاكل والنزاعات، والتى تتطلب من المجتمع الدولى اليقظة.
ما طرحته مصر حتى الآن يعد التحرك الأمثل والمنطقى، الذى سيجد صدى عالميا، كونه يعتمد على الأطر القانونية التى نستند لها فى تعاملنا مع الإدارة الأمريكية، فنحن أمام مجموعة من الحجج القانونية التى لا يمكن لأحد أن يتجاهلها أو التعرض لها، لأنها تمثل فى مجملها تنفيذا لإرادة الشرعية الدولية طيلة السنوات الماضية، والتى جعلت الفلسطينيين يقبلون بالجلوس على مائدة المفاوضات مع إسرائيل فى أوسلو ومدريد وكامب ديفيد وغيرها من الجوالات التفاوضية التى حققت نجاحا ضئيلا لكنها فتحت الباب أمام التفاوض على أساس الدولتين وأيضاً مجموعة من الأساس والمبادئ التى أعلن الجانبان الفلسطينى والإسرائيلى الالتزام بها منذ سنوات طويلة، لذلك فإن الولايات المتحدة مطالبة بالتراجع الفورى عن قرارها الأخير لأنها ليست فقط فى وضعية المخالف للقوانين والمواثيق الدولية، بل لأنها أيضا تفتح الباب أمام تداعيات محتملة سيكون لها تأثير مباشر ليس فقط على أمن واستقرار الشرق الأوسط، بل ستمتد آثاره إلى داخل الولايات المتحدة نفسها، لأن القرار ترتب عليه حالة من الغليان الشعبى التى لا يمكن توقع مردودها مستقبلا، فضلا عن أن القرار يمثل خنجرا طعنت به الولايات المتحدة الجهود المبذولة لاستئناف التفاوض بين الجانبين الفلسطينى والإسرائيلى، بهدف تحقيق السلام العادل والشامل وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة