ما نعرفه من قصص التاريخ الماضى، وما تعلمناه فيما يخص عوالم السياسة، يخبرنا بأن السخرية والنكتة كانت ولا تزال جزءًا من روح السياسة، لا تحلو المنافسة السياسية بدونها، ولا تكتمل النكتة السياسية إلا لو كانت على هامش العملية السياسية وليس أصلها، النكتة دومًا سلاح من أسلحة التيارات السياسية المختلفة، سلاح يجاور أسلحة مهمة مثل الرؤية، والخطة، والمنهج، وإحداث تغيير ملموس على أرض الواقع، أما النكتة بمفردها فلا تفعل شيئًا سوى تصدير صورة التفاهة عن صاحبها ومخترعها، وحينما تكون النكتة «سخيفة» وهدفها التربص والترصد، تسحب من رصيد صانعها الكثير، لذا حالة السخرية السخيفة التى يتبعها بعض نشطاء الـ«فيس بوك» من كل شىء فى مصر.. «سُلطة، جيش، أخلاق، عادات، رموز فكرية راحلة، أو على قيد الحياة» تبدو سلاحًا خاسرًا وفاسدًا يرتد بأثره على صدر مطلقه، فيقتله هو، ويشوه صورته، ويجعل صورته الذهنية فى عقول الناس مجرد مونولوجست على مسرح «درجة تالتة»، وليس سياسيًا يعلق الناس عليه الآمال.
أصبح الأمر أكبر منا جميعًا، تحولت السخرية إلى وحش يفترس ما تبقى من خلايا إنسانية بداخل بعضنا.
الناس على مواقع التواصل الاجتماعى، والملقبون بالنشطاء الذين يحلو لبعضهم تسمية نفسه بلقب المناضل، أو المغوار، أو الشجاع الذى لم تأتِ به ولادة من قبل، يسخرون من كل شىء وأى شىء، يستخرجون من بطن كل كارثة «نكتة» و«إفيه»، يغتالون كل خصم سياسى أو مخالف فى الرأى معنويًا، ينصبون مشانق السخرية لكل من قال كلمة لا تأتى على هواهم.
كتّاب كبار، ومثقفون كبار، وسياسيون لهم تاريخ طويل من الاحترام فجأة يتحولون إلى هدف للسخرية، هدف للإفيه والاغتيال المعنوى لمجرد أن لهم رأيًا مخالفًا لآراء السادة النشطاء، فجأة يتم محو تاريخهم بأستيكة، وفجأة يتم تنصيبهم كفشلة ومنافقين، ويتم اختصار تاريخهم كله فى هذا الرأى أو التصرف الأخير الذى لم يصادف هوى الجالس على مصاطب السوشيال ميديا، وكأن هناك عملية منظمة لاغتيال رموز هذا المجتمع، وتعريته من كل صاحب تاريخ أو جهد، أو أن هناك مخططًا شيطانيًا لتمكين فكرة مريضة تقول إن من بذل جهدًا وأبدع وأخلص لسنوات طويلة، مثل الدكتور مجدى يعقوب، أو الدكتور محمد غنيم قد يتحول فجأة إلى منافق وفاشل وبلا تاريخ، لأنه قال رأيًا داعمًا للسلطة، بينما فرد بلا هوية لم تنبت أسنانه بعد قد يتحول إلى بطل ورمز لمجرد أنه كتب «بوست» أو «تغريدة» ساخنة من 140 حرفًا على مواقع التواصل الاجتماعى فيها شتائم أو سخرية من السلطة والمسؤولين.
من يفعل ذلك؟! من يشوه قيمة العمل والإخلاص والإبداع والابتكار ويمجد فى أسلوب الشتائم والسخرية؟! من يريد هدم تلك الرموز ومحو تاريخها؟! من يريد تشويه المشروع الأدبى للدكتور محمد المخزنجى مثلاً بسبب رأيه السياسى لصالح مجموعات لا تكتب أدبًا بل تكتب قلة الأدب؟!.
لا تستسلموا لتلك الحالة الرخيصة التى يريدون للوطن أن يغرق فى وحلها، هم يريدون لنا أن نحول كل قيمة إلى هدف يجوز السخرية منه، وهده، وتشويهه بالاستهزاء، هم مثلاً يسخرون من مشاعر المواطن البسيط تجاه وطنه، النشطاء لطالما شجعوا على الحرية، ولطالما وصفوا رقصات المصريين فى الميادين بعد الثورة بأنها عبقرية، وأنها تعبير عن الفرحة، ونفس النشطاء هم الآن الذين يصفون رقصات المواطنين البسطاء المؤيدين للسلطة بأنها رقصات خليعة، ودليل على الجنون.
نفس النشطاء هم الذين كانوا يعتبرون كل حركة لأم شهيد فعلًا لا إراديًا لا بد من تسجيله وتوثيقه، ولطالما عرضوا فيديوهات لحالات مختلفة من أمهات الشهداء.. من حولت غرفته إلى متحف، ومن لا تترك ملابسه تفارق حضنها وغيرهما الكثير، ولكن نفس النشطاء هم الذين سخروا ببجاحة وعدم إنسانية من والدة أحد شهداء الأمن المركزى لمجرد أن الأم المكلومة احتضنت بيادة ولدها الشهيد، ورفعتها فوق رأسها.. بدلًا من أن تجد هذه الأم الحزينة الدعم والمساندة، لم تجد من النشطاء سوى السخرية والشتيمة، رغم أن حذاء ولدها الشهيد بألف ممن يعدون أنفسهم نشطاء وخبراء على مواقع التواصل الاجتماعى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة