تظل العلاقة بين التراث الوطنى المصرى وإدارته علاقة تخلف بيروقراطى، فنحن لا ندرك إلى الآن أهمية هذا التراث سواء كان مادياً أو اللامادى، لأننا نربط بين إدارة هرمية للتراث مرتبطة بآلية ورقية باحثة عما يسمى مجازاً "تستيف الورق" هذه الآلية معنية بصورة أساسية بمدخلات ورقية تبحث عن ذلك على مستويات الاقتصاد والثقافة والتعليم، وهى مكونات أساسية على الصعيد الوطنى.
إذاً كيف ندير تراثنا؟
إن هناك عدة أبعاد لإدارة التراث، هناك إدارة التراث من ناحية كون المؤسسات القائمة عليه تديره نيابة عن المجتمع، فالمجتمع هو مالك هذا التراث، لكن أن تظن هذه المؤسسات أنها هى المالكة فذلك هو الإشكال الحقيقى، لذا على هذه المؤسسات أن تفتح أبواب التعاون مع غيرها من مؤسسات الدولة أو المجتمع المدنى لتعظيم عوائد الوطن من هذا التراث، هنا يقف فى قانون الآثار عقبة أساسية هى عدم وجود مواد تحدد آليات توظيف الآثار كأماكن فى الفضاء العام، فأماكن تؤدى وظائف متعددة عدى كونها موروث من الأجيال السابقة، وبالتالى تخضع عمليات التوظيف للأهواء ولقواعد غير محددة.
إن الحقيقة الكامنة هى أن الدولة المصرية بمفردها لن تستطيع الحفاظ على التراث الوطنى، إذ أن حجم التراث المصرى أكبر بكثير من قدرات الدولة، وما يجب أن نعترف به أن إدارة التراث يجب أن تشمل أبعاد أخرى فالإدارة تعنى هنا محددات اقتصادية، فاقتصاديات إدارة التراث مسألة بحاجة ماسة إلى الفصل بين مراقبة ومتابعة الأثر كأثر، واستغلال إمكانياته اقتصادية بما يعظم العوائد منه، هنا يبدو لنا على السطح قصور آخر فى قانون الآثار الذى يتعامل مع الأثر على أنه وحده منفصلة عن محيطه، وليس كائنا حيا يتفاعل مع محيطه، فلا يوجد فى القانون ما يسمى المناطق ذات الأبعاد التراثية، كالمدن التراثية وإدارتها، من هنا نفهم لماذا نجح مشروع القاهرة التاريخية الذى تعامل مع الأثر ومحيطه وإن كان بصورة ناقصة بينما فشل غيره لأنه تعامل مع الأثر كوحدة مستقلة بذاتها.
انظر لحالة مثل ميدان القلعة بالقاهرة، أكبر ميدان أثرى فى العالم ومحيطه من تراث يندر أن يوجد مثيله فى مدينة أخرى، سترى مهزلة بالمعنى الحقيقى، مواقف باصات/ ورش/ سنترال/ قسم شرطة/ مساكن/ أكشاك/ خزان مياه/ مدارس، لكن لن ترى فنادق / محلات بيع منتجات حرف تقليدية، قارن العوائد، بل قارن إذا توافرت فى هذا الميدان مقومات الجذب للجمهور المصرى وليس السياح على آثار هذا الميدان.
كما أن مشروع ترميم آثار مدينة رشيد العام 1985 م كان يتعامل بنفس المنطق، حيث رممت آثار المدينة دون التعامل معها بصورة متكاملة، والآن هناك مشروع جديد غير واضح المعالم، يركز على الآثار المسجلة، دون أن يأخذ فى الحسبان الآثار التى لم تسجل، الخدمات التى لا توجد أساسا لزوار المدينة، فضلاً عن افتقاد رعاية الحرف التقليدية من صناعات تقوم على جريد النخيل وسعفه، بل حتى وجبات ومطعم رشيد المميز تاريخياً وتسويقه، هنا يغيب عن من يقومون بهذا المشروع تحويل رشيد لمقصد سياحى يتكامل مع الإسكندرية ومنطقة المستعمرة وقصر الملك فى ادفينا.
هذه صناعة أصبحت علما "فن إدارة التراث"، هذا الفن يدرس فى إيطاليا وأسبانيا وفرنسا وبريطانيا وغيرها من الدول، لذا فإننا فى هذا السياق لا بد أن نؤكد على أن إدارة التراث تشمل بعداً علمياً بحثياً سواء فى تسجيله أو الكشف عنه أو البحث العلمى حوله، بل إن العديد من الابتكارات تتم فى مجال الترميم ولا تسجل منها ما تم فى ترميم مجموعة توت عنخ آمون فى المتحف الكبير بمهارة غير مسبوقة دولياً، كما أن هذا يعظم فرص تسويق تراثنا، إذ أن انتاج أفلام تسجيلية عن مواقع الحفائر يمثل مادة خصبة يمكن أن تتسابق عليها القنوات الفضائية.
إن إدراك محافظات كالقاهرة والبحيرة مثلا أهمية التراث جعلها تنشئ إما إدارات أو تسعى لإيجاد برامج، لكن هذا يتطلب أن تكف المحافظات والأحياء عن إصدار قرارات هدم أو غض الطرف عن هدم مبان تراثية وتاريخية على غرار عدد كبير من الفيلات فى القاهرة والإسكندرية، هذا ما يمكن أن نسميه ضرورة وجود استراتيجية وطنية مصرية لإدارة التراث.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة