لا أحب أن أكتب عن الموت والموتى، فنحن أولى بالأحياء وهم أولى بنا، فى همومهم ونجاحاتهم وفشلهم، فمنهم ننظر إلى الواقع ونتعلم المستقبل، أما الموتى فهم فى عالم آخر، ما عادت الحياة ولا الأحياء يهمونهم أو يعملون من أجلهم، ولكن بعض الموتى تستمر ذكراهم لتمثل للأحياء قيمة ودرسا وذكرى لا تمحوها الأيام مهما مرت.
ففى مثل هذا الشهر من عام 2012 رحل عنا فنان عبقرى تمثل حياته قيمة كبيرة، فيها من الدراما ما هو أكثر صدقا من كل دراما مكتوبة، وحتى موته يحمل كثيرا من الدراما، فهو قد مات وكأنه أحد شهداء ثورة يناير 2011. إنه المبصر الضاحك المبهج الباكى عمار الشريعى.
وإن كانت مصر تفخر بطه حسين الكفيف العبقرى فى الأدب، فلها أيضاً أن تفخر بعمار الشريعى الكفيف العبقرى فى الموسيقى، حتى وإن رحلا فسيظلان مصدر فخر وعلم لأجيال قادمة لم تعاصرهما.
عمار الشريعى الذى بدأ رحلة صعوده منذ أن فقد البصر صغيرا، نشأ محباً للموسيقى وهاوياً لها، وبدأ يتعلم العزف على آلة البيانو وعمره ثلاث سنوات، وكانت ابنة عمه تعلمه العزف عن طريق تسمية النغمات بأسماء الأصابع، ثم اعتمد على نفسه فى عزف العديد من الأغنيات العربية والغربية المشهورة، وبدأ فى تعلم التدوين الموسيقى وعمره سبع سنوات وهو فى المدرسة، وجاء إلى القاهرة وعمره خمس سنوات، والتحق بمدرسة لرعاية المكفوفين، وكانت آنذاك تابعة للمعونة الأمريكية، ثم تحولت تبعيتها إلى كل من وزارة التعليم ووزارة الشؤون الاجتماعية.
وواصل عمار تفوقه الموسيقى بتعلم العزف على عديد من الآلات الموسيقية، وكان بداية احترافه تلحين أغنية مها صبرى أمسكوا الخشب يا حبايب عام 1974، ثم انطلق ليقدم للمستمع العربى أجمل ما سمع من الأنغام، من خلال الأغنيات كأقوى من الزمن لشادية، والأفلام التى تعدت الخمسين فيلما وأشهرها البرىء الذى غنى بنفسه الأغنيات المصاحبة للأحداث، إضافة إلى مئات من الموسيقى التصويرية والأغنيات للمسلسلات، ولعل أشهرها رأفت الهجان وأرابيسك وريا وسكينة ورحلة أبو العلا البشرى، وعديد من المسرحيات، ولعل برنامجه غواص فى بحر النغم على الإذاعة يُعد من البرامج التى لم تحظ الموسيقى العربية وكل الفنون بمثله كبرنامج فنى نقدى من المقام الرفيع.
كان الفتى الكفيف الذى تعلم ركوب الخيل والسباحة رغم الإعاقة، هو نفسه البالغ الرشيد الذى تعلم الغوص فى النغم، فألف الموسيقى واكتشف الأصوات وغاص فى حياة المصريين، وكان من بين هدير البشر الذين نزلوا فى ثورة يناير 2011 رغم المرض وضعف القلب، ثم كانت كلماته عبر التليفزيون هى وقود للشباب والغضب رغم حكمتها، ولكن قلبه لم يحتمل ألم مصر وهى تئن من الفوضى ويرفرف العمر الجميل الحنون ويفر ويفرفر فى رفة قانون، فيرحل عنا شهيداً وشاهداً على العصر.
عمار الشريعى.. سلامٌ على روحك ترفرف بأجنحة من النغم على مصر.