لم تكن أزمة البنسلين هى التى أعادت فتح ملف الدواء، لكنها مناسبة للتعامل بجدية واستمرارية مع ملف يتعلق بصحة المرضى، والنظام الصحى.
الدواء لا يمكن استبداله، وحتى الطعام أو الملابس يمكن الاختيار بين بدائل أرخص أما الدواء فهو فرض بلا بديل. وإذا كان وزير الصحة يتحدث عن قرب إصدار قانون التأمين الصحى فإن ضبط توفير الدواء يمثل خطوة مهمة صحيا واقتصاديا.
صناعة الدواء مجال يعتمد على جهات متعددة، جزء منها مسؤولية وزارة الصناعة، وأيضا مسؤولية الصحة، شركات الدواء تتبع وزارة قطاع الأعمال وجزء منها يتبع وزارة الاستثمار فيما يتعلق بالقطاع الخاص. والأهم هو الجهات البحثية والعلمية التى تمثل عمود هذه الصناعة، وهو أمر يكشف مدى التشعب فى قضية الدواء، المعقدة أصلا. ويمكن أن تجتمع كل هذه الجهات مع صناع وتجار الدواء لدراسة أبعاد الموضوع والتوصل إلى أفضل الحلول، نحن بحاجة للتفكير فى ملف الدواء بشكل أكثر عمقا، وعدم تركه للظروف، والأزمات المتكررة، ويخفف من الاعتماد على الخارج.
ومعروف أن صناعة الدواء تمثل مع صناعة السلاح، أكبر مجالات الاستثمار والتنافس فى العالم الحديث، وهى مفارقة أن يكون الدواء الذى يعالج البشر بجانب السلاح الذى يقتلهم. عالم صناعة الدواء له أسراره وتوازناته، والمريض مجرد هدف للربح أو زبون مستهدف، لا تشغل مصالحه الشركات العالمية، التى تنشغل بمصالحها وتفكر فى جيب المواطن، صناعة دقيقة تحتاج إلى إمكانات ضخمة فى البحث، وعندما تنفق شركة عالمية مليار دولار فى أبحاث دواء تتوقع أن تستعيد أضعاف هذا المبلغ.
صناعة الدواء عندنا بدأت فى الأربعينيات من خلال تركيبات بسيطة للأدوية وأجزاخانات، لكنها تطورت وتوسعت، وتم افتتاح أكثر من شركة كبرى للدواء وكانت هناك شركة النصر للخامات الدوائية، بدأت صغيرة، لكنها تعطلت تماما توقفت عن النمو والتطوير، مثل الكثير من الصناعات فى فترات المد الاستيرادى وتبنى نظريات ترى أن الاستيراد أرخص من التصنيع، قبل أن تنقلب هذه النظرية، مع اتفاقيات التجارة التى ترفض سداد مقابل ملكية فكرية على كل دواء، لمدة 20 عاما.
الدواء صناعة تقوم على العلم بينما أغلب ما جرى خلال العقود الأخيرة كان الاستيراد، ومن صالح المستورد أن تنتهى أو تختفى الأصناف المحلية البديلة الأرخص لصالح المنتجات الأحدث. هناك جهات ودول متعددة لديها الخامات الدوائية وتنتجها طبقا لما يسمى دستور الدواء البريطانى أو الأوروبى أو الأمريكى، وهى خامات أرخص ولا تختلف فى الكفاءة، لكنها تحتاج اتفاقيات وضبطا، حتى لا تتداخل مع جهات مجهولة أو غير مؤهلة، وقطعت دول مثل الهند والصين ودول آسيوية وأوروبية، شوطا فى أبحاث الدواء والخامات الدوائية ويمكن التعاون معها وتبادل الخبرة فيما يتعلق بتجاربها وإمكانية تطوير صناعة الدواء.
هناك اقتراحات طرحتها جهات مختلفة لإنتاج الأدوية بالاسم العلمى، وليس التجارى وهو أمر يسمح بإنتاج دواء أرخص، وهو اقتراح يفيد كثيرا فى إنتاج أدوية للتأمين الصحى، بشروط أسهل من القائم حاليا، ويوفر هذا الاقتراح عملية ضبط لاستخدام الأدوية. لكن هذا الاقتراح معطل ومن سنوات يظل داخل حدود الاقتراحات.
ويبقى التحرك فى هذا الملف أمرا ضروريا فى قضية الدواء، وربما تكون البداية بجمع الأطراف المعنيين بقضية الدواء.