تستحق قصة البنسلين أن تدرس جيدا كنموذج لنوع من الفساد، يجتمع فيه استغلال النفوذ والتربح والشروع فى قتل آلاف المرضى. فضلا عن كونه يكشف نموذجا لإهدار وسرقة المال العام واستغلال النفوذ، وما جرى مع البنسلين حدث مع منتجات دوائية أخرى، كانت تنتج محليا وأصبحت بدائلها تستورد بأضعاف ثمنها. وربما لو لم تظهر أزمة البنسلين لما سقط المتهم الفاسد فى أيدى الرقابة الإدارية.
المتهم كان يرأس شركة «أكديما إنترناشيونال» التابعة لشركة «أكديما» المملوكة للدولة، كانت تملك حق استيراد وتصدير «البنسلين»، وكان المستحضر مسجلا باسمها وهى الوكيل الأساسى.
عندما ظهرت أزمة نقص البنسلين، اكتشفت وزارة الصحة أن المتهم عندما كان رئيسا لشركة أكديما إنترناشيونال أنشأ شركة أخرى خاصة، باسمه واسم أفراد من أسرته، وتنازل بصفته رئيس شركة عامة، لشركته الخاصة، عن النشاط التجارى والاستيرادى من شركة «أكديما إنترناشيونال» لصالح شركته الخاصة، فأصبح بذلك المتحكم والمحتكر لعملية الاستيراد وتوفير «البنسلين».
لم يكتف المتهم بذلك لكنه قرر تعطيش السوق ليرفع السعر ويضاعف من أرباحه. ثم أنه أبلغ المورد الصينى المسؤول عن توريد شحنات «البنسلين»، بالتوقف عن التوريد وإلا سيقاضيه، وأراد الضغط على شركة «أكديما» للحصول منها على تعويضات مالية، ما أدى إلى اختفاء «البنسلين».
نحن أمام جريمة متعددة الأوجه، ونموذج لنوع من الفساد الدموى الذى لا يقل عن الإرهاب والجريمة المنظمة. فالمتهم لم يكتف بتربيح نفسه، وسرقة توكيل دواء أساسى، لكنه أراد منع استيراد البنسلين للحصول على أموال إضافية بالابتزاز. وكل هذا كشفته الرقابة الإدارية، وتحقيقات النيابة.
لكن تظل هناك مجموعة من الأسئلة، عن الكيفية التى سرق بها المتهم حق الدولة فى الاستيراد، وأين كان أعضاء مجلس الإدارة، فى شركة تتبع وزارة الصحة.
الوزارة قدمت بلاغا تتهم المدعو مدحت شعراوى بالاحتكار والتسبب فى أزمة البنسلين، ويمكن أن نشكر الوزارة، ونسأل عن السبب فى عدم انتباه المسؤولين طوال هذه المدة لعملية السرقة العلنية التى نفذها رئيس الشركة السابق. وما هى احتمالات أن يكون نقل إلى شركته حق استيراد أدوية أخرى ومنتجات محلية.
ويتوقع أن يكون المتهم تعمد وقف إنتاج الأدوية المحلية ليستوردها من خلال شركته ويتربح على حساب المرضى. وهى نقاط سوف تكشف عنها التحقيقات.
نحن أمام نوع من الفساد يجمع بين السرقة والجشع والتلاعب والشروع فى قتل المرضى، وتظل المفارقة أن ظهور الأزمة كشف عن كل هذا الفساد. ومال الذى يمنع من وجود وتكرار هذا النوع من الفساد فيما يتعلق باختفاء ونقص أدوية فى السوق، وإغلاق خطوط إنتاج محلية لصالح بدائل مستوردة. والبنسلين نموذج لما يحدث فى قطاعات أخرى تستنزف المال العام. يضاف إلى ذلك أن تتم عملية سرقة لحقوق شركة عامة، لصالح أخرى خاصة علنا وأمام أعين المسؤولين. وربما يظهر شركاء للمتهم، ونماذج أخرى فى شركات أخرى.