شاءت الظروف أن أنتهى من مذكرات الكاتب الكبير محمد سلماوى، والتى اختار لها عنوان «يوما بعض يوم»، وأنا فى رحلة بالقطار إلى مدينة الأقصر، كنت «محتارا» لا أعرف كيف أوزع بصرى بين مصر التى خارج نافذة القطار ومصر التى يحكى عنها محمد سلماوى فى رحلته الطويلة المليئة بالتفاصيل المهمة.
فى هذه المذكرات، والتى أظنها الجزء الأول، لأن محمد سلماوى توقف عند عام 1981، عند حادث المنصة واغتيال الرئيس محمد أنور السادات، بينما بدأها برحلته هو، طفلا، إلى بيت جده محمد السلماوى، بقرية محلة مالك، مركز دسوق بمحافظة كفر الشيخ، وبين هذين الحدثين دارت رحى كثيرة على مصر، منها الشخصى ومنها العام الذى سرعان ما يحمل النكهة الشخصية بسبب تأثيراته المباشرة على شخص سلماوى وبالتالى على شخص القارئ لهذه المذكرات.
فى مذكرات محمد سلماوى الجميع حاضر الجغرافيا والتاريخ والثقافة، الشخصيات والحكايات، كل شىء يتطور أو يتغير أو ينتهى، هنا الجميع يدخل دائرة الأحداث، فالحكام، ملوكا ورؤساء ووزراء وأصحاب رأس المال، لديهم مشكلاتهم، وهنا أيضا البسطاء، موظفين وعمال ومفكرين ومثقفين وحالمين، لديهم أزماتهم، لا أحد يمر فى مذكرات محمد سلماوى إلا وقد تورط فى الحكاية وتحول إلى بؤرة للأحداث حتى «محمود» الشقى الذى تاب فعمل «مكوجيا» ومع ذلك لا تتركه السلطة فى حالة فهم يلقون القبض عليه بسبب أو بدون، كما ذكر لـ«سلماوى»بعدما تزاملا معا فى الحجز بقسم المعادى إثر إلقاء القبض عليه فى 1977.
لدينا فى هذه المذكرات أنظمة فكرية تتغير ويأتى غيرها، وعالم تتبدل سياساته بحثا عن مصالح جديدة، ولدينا أيضا حكايات عن رجالات مصر من الساسة والمفكرين والكتاب والمثقفين والفنانين، فتوفيق الحكيم يقود «حلبة» الثقافة من موقعه فى الدور السادس فى مؤسسة الأهرام، بينما نجيب محفوظ لا يفقد «طبعه المتأمل» وحسه الفكاهى وطريقته الزاهدة فى التعامل مع الأشياء، بينما نشهد جميعا ما يفعله يوسف السباعى فى السنوات الحرجة من حياته وحياة السادات وحياة مصر.
فى هذه المذكرات مربيات أجنبيات يصنعن الثقافة وأب ناجح فى عمله وأم «راقية» وزوجة «فنانة محبة» وأبناء يمثلون الحلم، وقبل كل ذلك جدود قاموا بدورهم كاملا لم ينقصوا منه شيئا، وفيها أيضا معارض فن تشكيلى وحفلات موسيقى واعتقالات وسجون وعمل وبطالة ومنع ومنح.
إذن يمكن القول بأن «يوما أو بعض يوم» هى شهادة وافية عن مصر فى مراحل مختلفة، استطاع سلماوى بما يملكه من وثائق وصور وتفاصيل مكتملة الأركان أن يقدمها لنا مستغلا كونه أديبا كبيرا، فهى مذكرات مصر كما يرويها محمد سلماوى.