عندما تقرأ وتعرف أن مصر كانت رائدة فى صناعة الأدوية، وسبقت الهند، ثم تتراجع وتنهار هذه الصناعة وبشكل مخيف، ثم تقابلها نهضة صناعية وتقدم مذهل فى الهند، فلابد أن تصاب بحالة من الألم والضيق والإحباط، وتشتعل بداخلك نار الأسئلة عن الأسباب التى أدت إلى انهيار هذه الصناعة، وهل تراكم 30 عامًا من الإهمال له دور من عدمه؟!
يعلم الجميع شعارات أن الدواء أمن قومى، وأن نقصه كارثة، وهى الشعارات التى تحولت إلى «كليشيهات» مع مرور الوقت، فكيف لدولة سبقت وتفوقت على دول مهمة فى صناعات عدة، منها صناعة الأدوية، وتحديدًا سبقت الهند، ثم تتراجع وتنهار بشكل مذهل، وتصبح الهند من أهم الدول فى صناعة الدواء، وتقدمت بشكل مذهل فى القطاع الطبى، دون أن نعلم الأسباب، ويظل الأمر وكأنه لوغاريتمات؟!
وتدهور صناعة الدواء فى مصر توضحه الأرقام، التى لا تكذب ولا تتجمل، فبينما كان الإنتاج المحلى من الدواء يلبى ما يقرب من %80 من احتياجات السوق، وينتجه 8 مصانع، من بينها ممفيس والنصر والنيل، ثم تراجع الإنتاج إلى %8 فقط، وهو ما يعد انهيارًا مخيفًا، مع الوضع فى الاعتبار أن إنتاج الخامات بمصر يوفر مليارات الدولارات، ويساعد فى تنمية الاقتصاد المصرى بشكل كبير للغاية!
مصر الدولة الكبيرة، وبما تضمه من قوى بشرية هائلة، وعقول قادرة على الابتكار والاختراع، وإعداد الأبحاث المهمة عن صناعة الدواء، تنهار فيها صناعة تعد أهم ركائز الأمن القومى المصرى بمفهومه الشامل، وأن السبب الذى ارتكن إليه المتخصصون فى تقييمهم لسبب الانهيار فى هذه الصناعة الحيوية، بأنه لا توجد أى ميزانية أو مخصصات للإنفاق على البحث العلمى فى مجال الأدوية، وهو بحسابات المكسب والخسارة، فإن الاستثمار فى صناعة الأدوية، يحقق أرباحًا طائلة وسريعة، ويؤمّن السوق المحلية، ويقضى على مشكلة النقص نهائيًا، وهو ضمان كامل للحفاظ على محور رئيسى من محاور الأمن القومى.
وهناك إجماع من المتخصصين فى قطاع الأدوية بشكل خاص، والصحى بشكل عام، على أن مصر تزخر بالكفاءات والباحثين والقامات العلمية الكبيرة، التى إن أمكن توظيفها واستثمارها بشكل جيد فى النهوض بالاقتصاد الدوائى، فإن مصر ستحصد المليارات وتقضى على مشكلة نقص الدواء نهائيًا، ولن يتحقق ذلك سوى بإصدار قرار إنشاء مصانع لإنتاج المواد الخام التى تحتاجها صناعة الدواء الوطنية، ورفع ميزانية البحث العلمى.
ولكن- للأسف- وحسب الأرقام أيضًا، فإن شركات الأدوية المسيطرة على السوق المصرية هى شركات أجنبية، حيث تسيطر على %60 من السوق، أما شركات القطاع الخاص المصرية فإنها تسيطر على %35 فقط، وجميع هذه الشركات ينحصر نشاطها فى تعبئة وبيع الدواء فقط، وليس التصنيع والإنتاج، خاصة إنتاج المواد الفعالة، وأصبح الاعتماد على الاستيراد، بداية من استيراد علب الكارتون المغلفة للأدوية، مرورًا بزجاجات دواء الشرب، و«الشريط» الذى توضع به الأقراص الدوائية، ونهاية باستيراد الكيماويات الدوائية، لسد حاجة السوق المصرية، ومن هنا تولدت مشاكل نقص واختفاء الأدوية!
إذن، انهيار الصناعة الوطنية، والاعتماد على الاستيراد فقط، أدى إلى مشكلتين رئيسيتين، تشهدهما السوق المصرية حاليًا، الأولى الاحتكار، والثانية اختفاء عدد كبير من الأدوية الحيوية الخاصة بعلاج السرطان، والشلل الرعاش، والمغص، والأدوية الضرورية للعمليات الجراحية، وصباغات الأشعة، وهو ما يجبر الأطباء على اللجوء إلى أدوية بديلة أقل تأثيرًا أو مستحضرات مستوردة باهظة التكاليف على المرضى.
وهنا لابد أن نسأل عن دور الحكومة حيال هذه المشكلة الخطيرة، ولماذا مع كل أزمة نقص دواء نكتشف سرًا دفينًا يكتنفها، مثل اكتشاف وجود مصنع ينتج ألبانًا ويصدر كل إنتاجه للخارج، دون أن يطرح علبة لبن واحدة فى الداخل، وكأن المصنع فى كوكب آخر، بجانب اكتشاف تلاعب مسؤول بوزارة الصحة، واحتكار البنسلين لصالح مصنع ابنه الخاص، وهو أمر يدعو للدهشة والصدمة الشديدة التى يفتقد على أعقابها الإنسان قدرته على الكلام والاستيعاب!
وأين وزارة الصحة، ولماذا نشعر دائما بأنها رد فعل فقط حيال كل الأزمات؟!.. وهل لديها خطط بديلة وأبحاث حقيقية عن الدواء فى الأسواق، والوقوف على كل احتياجات القطاع الطبى خاصة فى المستشفيات؟
الحقيقة أن وزارة الصحة تستشعر أن مسؤوليها مثلهم مثل المواطنين العاديين، يُفاجئون بالأزمات وبنقص دواء بعينه، ومع دراسة الأزمة تكتشف ما يفوق قدرات العقل على الاستيعاب، مثل وجود مصنع لإنتاج الدواء المختفى، ولا تعلم عنه الحكومة شيئًا، وكأنه تائه فى الفراغ الخالى!
ونسأل السيد وزير الصحة المحترم: هل حضرتك لديك لجنة متابعة دقيقة مهمتها دراسة سوق الأدوية، والتنبيه مبكرًا بوجود نقص فى دواء بعينه، لتتحرك الوزارة وبسرعة لسد احتياج السوق؟، وهل هناك سيطرة من الوزارة على كل قطاعات الصحة فى مصر، ومن بينها مصانع وشركات الأدوية؟، والسؤال نفسه نطرحه على نقابتى الأطباء والصيادلة من أزمات الصحة بشكل عام والأدوية بشكل خاص؟.. أسئلة تحتاج إلى إجابات.. والإجابات عند الحكومة، والحكومة تطبق سياسة القردة الثلاثة «لا أرى شرًا ولا أسمع شرًا ولا أنطق شرًا»!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة