فى دفعة جديدة من الوثائق التى تنشرها هيئة الإذاعة البريطانية "بى بى سى"، بعد رفع السرية عنها من قبل حكومة المملكة المتحدة، والتى تطرقت فى وقت سابق لملفات شائكة من بينها موقف الرئيس الأسبق حسنى مبارك من عملية السلام، ووضع سيناء ضمن مفاوضات التسوية السياسية الشاملة للصراع العربى الإسرائيلى، نشرت "بى بى سى عربى" مستندات زعمت إنها ضمن أرشيف المملكة، تطرقت إلى سنوات مبارك الأولى منذ عينه الرئيس الراحل أنور السادات نائباً له وصولاً إلى ممارسته مهامه رئيسًا لجمهورية مصر العربية.
وبحسب الوثائق، التى لم يتم التأكد من صحتها أو علقت عليها أى أطراف رسمية داخل بريطانيا نفسها، فإن "البريطانيين سعوا جاهدين للحفاظ على مكانة حسنى مبارك كنائب للرئيس المصرى حتى يتمكن من خلافة الرئيس أنور السادات "أملا فى مساعدتهم على إبرام صفقات سلاح".
جزء من المستندات
وحسب الوثائق، فإن التقييم البريطانى للرئيس الأسبق عندما تولى الرئاسة هو أنه "كان مستقيما ولم يكن قابلا للإفساد فى المنصب"، وأنه "تولى الرئاسة على مضض".
وزعمت الوثائق التى حصلت عليها "بى بى سى" العربية حصريا بمقتضى قانون حرية المعلومات، إلى أن بريطانيا كثفت اهتمامها بمبارك، عقب توليه منصب نائب الرئيس فى 16 أبريل 1975.
رغم أنه ليس معنيًا مباشرة بسياسة مشتريات سلاح الجو المصرى، فإن مبارك بحسب زعم هيئة الإذاعة البريطانية، كان له تأثيرا هائلا على سلاح الجو ويحتفظ بصلات بزملائه السابقين فى الخدمة.
وفى آخر زيارة لمبارك، كنائب للرئيس، إلى لندن فى شهر سبتمبر 1980، تقرر "عدم المبالغة" فى الاهتمام به كى لا يوغر صدر السادات عليه.
وبموجب الوثائق التى لم تشر "بى بى سى" إلى مصدرها، وما إذا كانت تابعة للخارجية البريطانية أم أجهزة استخباراتية تابعة للمملكة المتحدة ، فإن السفارة البريطانية حذرت حينها من تبعات إبداء اهتمام لافت للأنظار بالزيارة حرصًا، كما كان واضحا، على مصلحة ومكانة مبارك.
تقرير سفير بريطانيا بالقاهرة ينصح حكومته بعدم المبالغة في إبداء الاهتمام العلني بزيارة مبارك عندما كان نائبا للرئيس
وقالت السفارة، فى برقية "سرية وشخصية"، إلى إدارة الشرق الأدنى وشمال إفريقيا فى الخارجية البريطانية إن "أحد أسباب محاولتنا إثارة ضجيج بشأن مبارك، نائب الرئيس، عندما يزور بريطانيا الشهر المقبل هو أنه الخليفة الأكثر احتمالا للرئيس السادات فى حالة حدوث أى شىء للأخير".
ونبهت إلى ضرورة لفت انتباه المتحدثين الإعلاميين البريطانيين "كى لا يتحدثوا لوسائل الإعلام بحماس عن زيارة مبارك المرتقبة".
وقالت البرقية التى أرسلها السفير سير مايكل وير "سوف أترك لكم تقدير الخطر (الذى ينطوى عليه مثل هذا الاهتمام). غير أن الرئيس (السادات) قد يفهم الأمور خطأ بشكل كبير لو حدث هذا الشىء ( الضجيج) وإن كان بريئا".
وخلصت إلى أن "قوة موقع مبارك تكمن حتى الآن فى قدرته على مساندة الرئيس فى كل المناسبات من دون أن يبدو بأى حال أنه تهديد، ولو شعر الرئيس بأنه (مبارك) يكتسب قاعدة قوة مستقلة، فربما يقرر تحجيمه".
وجاءت توصية السفير البريطانى رغم إصرار نظيره المصرى فى لندن حسن أبو سعدة (وهو فريق سابق فى الجيش المصرى) على أن يُستقبل مبارك استقبالا رفيع المستوى.
جانب من المستندات
واجتمع أبو سعدة مع مسئولين فى وزارة الخارجية بعثوا لاحقا ببرقية إلى رئاسة الوزراء تقول: "السفير حريص على جعل الزيارة مهيبة، وأكد أن مبارك يتوقع أرفع معاملة".
لكن إدارة الشرق الأدنى وشمال إفريقيا وجدت صعوبة فى الاستجابة لطلب السفير، وقالت فى برقية سرية "نحن نخشى أنه ربما يرفع السفير توقعات مبارك بقدر أعلى من الممكن".
وبحكم تاريخه العسكرى، كان مبارك حريصا، عندما كان نائبا للرئيس، على زيارة معرض فارانبره البريطانى لصناعات الطيران الحربى ذو الشهرة العالمية. وقد زار المعرض فى عامى 1974 و1976، وفى الزيارة الثانية "كان متسترا (أى لم تكن الزيارة رسمية ولم يعلم بها أحد من البريطانيين)"، كما قال السفير البريطانى فى برقية إلى الخارجية.
مبارك والسادات
واقترح وير، بإصرار، توجيه دعوة رسمية لمبارك كضيف على الحكومة البريطانية لزيارة المعرض فى شهر سبتمبر 1980.
وقال ناصحا حكومته فى برقية سرية، إنه "من المثالى أن آمل أنه سيكون من الممكن توجيه الدعوة لمبارك للقيام بزيارة رسمية لبريطانيا فى فترة إقامة معرض فارانبره الجوى سواء من جانب رئيسة الوزراء أو وزير الدفاع مع ترتيب لقاءات مع وزير الخارجية ورئيسة الوزراء ووزير الدفاع".
وبرر سير مايكل إصراره بالقول "على المدى الأبعد، يزداد موقعه- مبارك- كخلف محتمل للرئيس السادات قوة باستمرار".
وحذر السفير من تجاهل نصيحته خدمة لمصلحة بريطانيا، وقال: قد يبدو هذا تدليلا مبالغا فيه لمبارك، غير أننى أجزم بأن الأمر ليس كذلك، وبالتعبيرات المصرية ، مبارك يميل كثيرا إلى بريطانيا".
أما لماذا حرص السفير على ضرورة حضور مبارك المعرض العسكرى الشهير هذه المرة بشكل رسمى، فتزعم البرقية قائلة: "رغم أنه ليس معنيا مباشرة بسياسة مشتريات سلاح الجو المصرى، فإن له تأثيرا هائلا على السلاح الجوى المصرى ويحتفظ بصلات بزملائه السابقين فى الخدمة "الذين مازالوا فى أماكنهم".
ونبهت البرقية إلى احتمال أن يخطف الفرنسيون اهتمام مبارك ويستحوذون عليه، فقالت منبهة متخذى القرار فى لندن إلى إنه "يزور معرض باريس الجوى بانتظام".
وتؤكد برقية أخرى أن علاقة مبارك بالجيش المصرى باعتباره قائدا سابقا للقوات الجوية فى حرب أكتوبر 1973 كانت سببا رئيسيا فى الاهتمام بمبارك النائب.
وفى هذه الوثيقة طُرحت أسباب دعوة الحكومة البريطانية مبارك رسميا ليكون ضيفا عليها خلال زيارته لبريطانيا بهدف حضور معرض فارانبره.
تقول البرقية التى كتبتها وزارة الخارجية "غرض الزيارة مزدوج: الأول تمكين مبارك، وهو قائد سابق للسلاح الجوى المصرى، من زيارة معرض فارانبره الجوى، والثانى تهيئة فرصة لنا للتقرب من أكثر المصريين نفوذا بعد الرئيس السادات، فيشاع بقوة أن السيد مبارك سيكون خليفة الرئيس السادات ومن المهم أن نظهر له كل اهتمام ".
ولم يكن يقصد البريطانيون، كما توحى الوثائق، أنه يمكن إقناع مبارك بالقيام بدور فى إبرام صفقات سلاح مقابل استفادة مالية.
وشاع عن مبارك حبه لرياضة الاسكواش، غير أن الوثائق البريطانية تكشف أن شغفه بالأفلام السينمائية التى تتناول الحروب كان أكبر، وتقول وثيقة لإدارة الشرق الأدنى وشمال إفريقيا إن صحيفة الجارديان أجرت مقابلة مع مبارك فى شهر يناير عام 1983، وبعد انتهاء المقابلة، سأل المراسل (ماكموناس) مبارك عن الطرق التى يرفه بها عن نفسه ويسترخى ويستجم.
وحسب المراسل، فإن مبارك "أجاب بلا تردد : أفلام الحرب. أشاهد أفلام الحرب البريطانية والأمريكية".
وتشير البرقية، التى كان موضوعها "كيف يسترخى الرئيس"، إلى أنه عندما ترك المراسل الرئيس بعد إجراء المقابلة، سأل أحد معاونيه عن هذا الأمر، وأكد له أن تلك هى هواية الرئيس.
وأضاف معاون الرئيس، أن "السفارة المصرية فى لندن تنفق قدرا هائلا من وقتها كى ترسل للرئيس شرائط كاسيت ( فيديو) لأفلام الحرب الملائمة".
وقال كاتب البرقية وهو إس إل كوبر-كوليس، من السفارة البريطانية فى القاهرة، إن مراسل الجارديان هو الذى أبلغه بهذه المعلومة.
فقد اعتقد البريطانيون، فى ذلك الوقت، بأنه لا يمكن التعامل مع مبارك بهذا الأسلوب.
ففى سيرة ذاتية لمبارك أعدت عندما تولى الرئاسة، استبعدت أجهزة جمع المعلومات البريطانية ميل مبارك للفساد، وقالت السيرة التى أعدت بناء على طلب رئاسة الحكومة "الترقية غير المتوقعة ( لمبارك) إلى منصب نائب الرئيس فى أبريل 1975 جاءت مفاجأة كبيرة رغم أن أسلوبه العسكرى المنضبط وكفاءته الإدارية، جعلت الوظيفة وكأنها خلقت له، ثم إن سمعته الآن أنه واحد من الذين لا يمكن أن يفسدوا فى المنصب".
وبعد أربعة شهور فقط من توليه المنصب، زار مبارك، الرئيس، بريطانيا فى شهر فبراير 1982، وطلبت، مارجريت ثاتشر، رئيسة الوزراء البريطانية حينئذ، معلومات إضافية عنه قبل مثولها أمام البرلمان للرد على أسئلة النواب.
وفى التقرير المعلوماتى، قالت السفارة البريطانية فى القاهرة إن "اغتيال الرئيس السادات فى أكتوبر 1981، جاء به ( مبارك) إلى السلطة على مضض منه".
وأضافت أنه "رغم أن كونه الخيار الواضح للوظيفة، فى الوقت المناسب، فإنه لم تكن لديه فيما يبدو رغبة فى توليها بهذه السرعة".
ووصفت الوثيقة مبارك حينها بأنه "ليس عميق التفكير"، غير أنها قالت إن طريقته فى الحكم "هى بحث كل النقاط وأخذ آراء الأغلبية".
وقالت تقارير أجهزة جمع وتقييم المعلومات البريطانية عن مبارك إنه "أصاب فى تحديد إحباطات المصريين البسطاء، ووعود السادات التى لم ينفذها، واللامساواة المتنامية بين الأغنياء والفقراء، والفساد فى المواقع العليا، وظروف المعيشة المروعة فى العشوائيات الحضرية فى المدن".
غير أن التقارير نبهت إلى أن مبارك "يفتقد رؤية السادات، ويظهر أنه ليس لديه مفهوم شامل لمصر التى يود أن يراها".
ورغم أن مباحثات مبارك وثاتشر، خلال هذه الزيارة، تناولت فقط قضايا الشرق الأوسط وعلى رأسها الصراع العربى الإسرائيلى، فإن رئيسة الوزراء البريطانية، أثارت مسألة صفقات السلاح فى نقاش خاص حضره أسامة الباز.
وحسب برقية صادرة عن السكرتير الخاص لرئيسة الوزراء، فإن ثاتشر تحدثت مع مبارك بالتحديد عن عرض شركة فوسبير ثورنيكروف البريطانية (التى يملكها أمريكيون الآن) بشأن قوارب مراقبة بحرية قادرة على حمل صواريخ أو فرقاطات لمصر.
وتشير البرقية إلى أن ثاتشر "شددت لمبارك على أن هناك حزمة مالية محسنة (ائتمان مالى فى شكل قرض لتمكين مصر من قبول العرض) متاحة الآن".
وتضيف البرقية "قال الرئيس مبارك، الذى بدا وكأنه لم يُطلع على المسألة، إن مصر تحتاج إلى وقت لبحث العرض".
وأرسل سكرتير ثاتشر نسخة من برقيته ومحضر المباحثات بين الوفدين إلى وزارتى الدفاع والتجارة، وشدد على الالتزام "بألا توزع إلا فى نطاق ضيق للغاية".
وأثارت ثاتشر موضوع التسلح بناء على تقرير أعدته السفارة البريطانية فى القاهرة، قبل زيارة مبارك بثمانية أيام.
وسرد التقرير ما قال إنه "مجالات رئيسية يمكن استثمار" زيارة مبارك لتحقيق الاستفادة فيها، وشملت هذه المجالات "البحرية والدفاع الجوى والدبابات والمدفعية والتحكم والسيطرة والاتصالات".
ويكشف التقرير عن علم السفارة بأن "سلاحى الجو والبحرية المصريين يجريان عملية استعراض لمشترياتهما"، كما يكشف عن "زيارة أخيرة لفريق قوى من وزارة الدفاع البريطانية لمصر، وزيارة أخرى خلال شهر فبراير( الشهر الذى زار فيه مبارك لندن) من جانب فريق قوى آخر من وزارة الدفاع البريطانية يرافقه ممثلون عن شركات صناعة الأسلحة".
وفيما يتعلق بالتمويل فى ظل مشكلات مصر الاقتصادية فى ذلك الوقت، قال التقرير: "لو تحسنت العلاقات المصرية السعودية، فإن المال السعودى سوف يصبح متاحا مرة أخرى لمشروعات الدفاع المصرية."
وتابع التقرير: لو تحسنت العلاقات المصرية السعودية، فإن المال السعودى سوف يصبح متاحا مرة أخرى لمشروعات الدفاع المصرية و"فى هذه الأثناء (أى لحين توفر المالى السعودى لمصر)، وبينما يجرى نقاش بشأن المبيعات المباشرة، فإن توفير شروط مالية ائتمانية تفضيلية (من جانب وزارتى الدفاع والتجارة البريطانيتين) أمر حاسم".
وأوصت السفارة بضرورة إتاحة تسهيلات ائتمانية لتمكين مصر من شراء السلاح من بريطانيا ومنح العقود لشركاتها.
وبعد عام من هذه الزيارة، أجرت بريطانيا تقييما جديدا لطريقة حكم مبارك، وأشار التقييم، الذى أعد بمناسبة زيارة لمبارك إلى بريطانيا فى أوائل شهر فبراير 1983، إلى بعض ملامح حكمه.
وقال التقييم، الذى أعدته السفارة البريطانية فى القاهرة ، إنه "بعد 15 شهرا فى المنصب، يظل أكبر إنجاز متفرد لمبارك هو التغيير العميق الذى أدخله على أسلوب الرئاسة، ومن ثم على المناخ السياسى فى البلاد".
وأضاف أن "نهجه (مبارك) فيما يتعلق بالحكومة هو البرجماتية، وفوق كل ذلك، الحذر، والأسلوب الجديد له مزاياه: فالخطابات باتت أقصر وأقل عددا من خطابات السادات، وخالية من النبرة الخطابية والوعود الفارغة، وهو يتشاور بشكل واسع ومنتظم، واستقامته الشخصية ليست محل أى شك".
لم تنعكس "استقامة" مبارك، حسب رؤية البريطانيين، على طريقته فى مكافحة الفساد. فقد فشل فى مكافحة الفساد الذى كان المصريون يشكون منه دائما، حسب التقييم، الذى جاء فيها "حظيت حملته ضد الفساد، خاصة محاكمة شقيق السادات، بموافقة عامة، لكن تأثيرها كان ضئيلا فى تبديد الشك.. (فالحملة) تؤكد أن الأسماء الكبيرة لا تُمس".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة