حاولت منذ أيام شراء نسخة من مذكرات الكاتب الكبير محمد سلماوى الشيقة "يوما أو بعض يوم" لأحد الأصدقاء، فعلمت من المكتبة التى قصدتها بالزمالك أن جميع النسخ نفدت بعد طرحها بأيام قليلة، وبعد مواصلة البحث وجدت بعض النسخ متوفرة فى إحدى مكتبات المعادى، وعلمت أن دار "الكرمة" التى نشرت الكتاب تعد الآن لإصدار طبعة ثانية - وربما ثالثة - ليكون الكتاب متاحا بمعرض القاهرة للكتاب فى نهاية شهر يناير، ولا عجب فى ذلك فهذا الكتاب الذى وصفه الناقد الكبير الدكتور جابر عصفور بأنه "من أجمل السير الذاتية التى قرأتها"، ملىء بالمعلومات التاريخية الشيقة والتى تحمل دلالات غاية فى الأهمية، والكثير منها لم يكن معروفا من قبل.
ومن أجمل الوقائع التاريخية التى يرويها سلماوى فى مذكراته واقعة مثيرة تعود إلى حوالى مائة سنة مضت، وتثبت أن الوحدة الوطنية متأصلة فى الشعب المصرى منذ القدم، وبطلا القصة هما جد والدة سلماوى المهندس حسن الرشيدى أفندى، وصديقه واصف بطرس غالى أفندى، ابن بطرس غالى باشا رئيس الوزراء الأسبق، أما أفندى فهو لقب تركى كان يطلق على الشخص المتعلم حامل الشهادات.
يقول سلماوى أن الصديقين حسن أفندى وواصف أفندى اعتادا أن يحتسيا القهوة يوميا فى شرفة فندق "شبرد" القديم والواقع آنذاك فى ميدان الأوبرا، وتقول القصة، إن سعد زغلول حين شكل أول وزارة له بعد ثورة 1919، رأى أن يعين فيها لأول مرة وزيرين من الأقباط، وكانت العادة هى تعيين وزير قبطى واحد فى كل تشكيل وزارى، وقد أراد الملك فؤاد الذى كان يناصب سعد زغلول العداء أن ينال منه، فرفض ذلك التشكيل متعللا بأن الوزارة التى لم تكن تضم فى ذلك العصر أكثر من عشرة وزراء، لا يمكن أن يكون اثنان منهم من الأقباط، أما الوزيران اللذان اقترحهما سعد باشا فهما واصف بطرس غالى أفندى لوزارة الخارجية، ومرقص حنا بك لوزارة الأشغال العمومية، وكانت وزارة الأشغال هى المسئولة وقتها عن الرى والصرف الصحى والمساحة وميناء الإسكندرية، وكذلك عن الآثار وعن دار الأوبرا وعن مرصد حلوان (!)
ويقول سلماوى إن القصر الملكى مارس ضغوطا هائلا على سعد باشا للاستغناء عن القطب الوفدى مرقص حنا الذى كان قريبا من سعد باشا فتعثر إعلان الوزارة، وعندئذ اقترح واصف أفندى على سعد باشا تعيين حسن الرشيدى وزيرا للأشغال بدلا من مرقص حنا إنقاذا للموقف، ومن الطريف أن المهندس حسن الرشيدى الذى كان صاحب أكبر محلات الأدوات الصحية فى ذلك الوقت، وربما كان يهوى الآثار أو يرتاد دار الأوبرا، لم يكن - حسب ما يرويه سلماوى عن جد والدته - خبيرا بالرى ولا بالصرف الصحى ولم يعش فى أى فترة من حياته فى الأرياف، ويضيف سلماوى "إلا أن واصف أفندى على ما يبدو وجد فى عمل صديقه القاهرى فى مجال الأدوات الصحية ما يؤهله لأن يكون مسئولا فى الحكومة عن كل ما يتعلق بالمياه ومجاريها فى مملكة مصر والسودان".
وتمضى تفاصيل الواقعة التاريخية فنجد سعد زغلول يتمسك بالوزيرين القبطيين فى أول وزارة له، وهى التى عرفت باسم وزارة الشعب، إلى أن اضطر الملك فؤاد فى النهاية للرضوخ له وقبول التشكيل الذى اقترحه.
وهكذا وجدنا واصف أفندى القبطى يقترح وزيرا مسلما للوزارة ورئيس الوزراء المسلم يتمسك بوزيره القبطى مما يحمل معنى نبيل ينم عن أصالة هذا الشعب الذى لم يكن يرى هناك فرق بين مسلم ومسيحى، وحين اقترح واصف أفندى اسم حسن أفندى لم يدر بخلده ديانة صديقه من قريب أو بعيد، كما أن الملك فؤاد الذى أراد استخدام النعرة الدينية لينال من سعد زغلول متصورا أن الناس ستأخذ جانبه ، هزم فى النهاية وانتصرت الوحدة الوطنية المتأصلة فى الشعب المصرى.
وينهى الكاتب الكبير محمد سلماوى قصته الجميلة هذه فيقول : " لكن عمر هذه الوزارة التى تشكلت فى يناير 1924 كان قصيرا ، ففى نوفمبر من العام نفسه قدم سعد زغلول استقالته على خلفية مقتل السردار فى السودان ، وخرج واصف بطرس غالى أفندى من الوزارة ، فعاد يحتسى القهوة يوميا مع صديقه حسن الرشيدى أفندى فى شرفة فندق "شبرد" القديم بميدان الأوبرا" .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة