قبل أربعة أيام حلمت بأستاذنا صلاح عيسى، الكاتب والمؤرخ والمعلم الكبير لجيلنا وأجيال مختلفة. صحوت و«أسررتها فى نفسى خيفة، وأنا أقول لعله خير». وتذكرت أننى لم أتصل به كما هى العادة من فترة. وقررت أن أفعل، فإذا بى أطالع خبر نقله للمستشفى. شعرت بذنب تلميذ يقصر فى حق الأستاذ العم صلاح عيسى له الكثير من الأفضال وكثيرا ماقدم لجيلنا دروسا مجانية مباشرة وغير مباشرة فى المهنية والعمل والاختلاف فى الرأى باحترام فضلا عن الإخلاص والدأب والصبر والدقة والتوثيق.
مقالات وكتب صلاح عيسى أول ماتعلمناه من دروس، وكنا نتابع أسبوعيا زاويته الشهيرة فى الأهالى«الإهبارية»، والتى كانت قطعة فنية فى النقد السياسى والاجتماعى، ودرسا فى كيفية الحوار، كانت تمتاز بالسخرية وخفة الدم، والعمق فى تناول الفكرة وتقديم الأدلة، وتخلو من أى تجريح أو إهانة الطرف الآخر.كان صلاح عيسى معارضا شجاعا، يعتمد على المنطق ويفند آراء خصومه ببراعة فيكسب أرضا ويفوز أمام الرأى العام.
صلاح عيسى بارع فى اختيار العناوين والجمل القصيرة. وفى الأهالى أيضا كان يكتب يوميات بشكل دورى يقدم فيها قطعا أدبية وشاعرية، عن أساتذته وعن أحواله ومفارقات حياته وقصص لكتاب ومفكرين وأكاديميين.
الأهالى كانت تحت رئاسة تحرير الأستاذ حسين عبد الرازق، والأستاذ صلاح عيسى مديرا للتحرير، بماكيت عبقرى للفنان الراحل أبو العينين، وكاريكاتيرات بهجت وحجازى واللباد، وجمعت نجوم الكتابة والفكر مثل الدكاترة إسماعيل صبرى عبد الله، وفؤاد مرسى، ولطيفة الزيات وجلال أمين، وناجى جورج ونبيل زكى، ونوال السعداوى، وشفيق أحمد على، ومن الأجيال التالية أحمد إسماعيل وسليمان شفيق ومحمود الحضرى وبهيجة حسين وحازم منير وآخرون يصعب حصرهم.
من نجوم الصحيفة كانت فريدة النقاش وأمينة النقاش. وكان الكاتب الراحل موسى صبرى أحد الخصوم الدائمين، يطلق على الأساتذة «حسين وفريدة، وصلاح وأمينة» عصابة الأربعة، بينما أطلق عليه الأستاذ صلاح عيسى»موسى شرف المهنة». كانت الأهالى جريدة مؤثرة، واصلت تألقها برئاسة الكاتب الراحل العظيم فيليب جلاب.
بعيدا عن الصحافة كان الأستاذ صلاح عيسى يكتب مقالات وأبحاثا تاريخية وثقافية، فى مجلات ودوريات عربية ومصرية، بعضها ضمنها كتبه الشهيرة.والتى كانت عالم من التأريخ والثقافة والشاعرية، ورصدا أمينا للعلاقة بين المثقف والسلطة.
أول كتبه عن الثورة العرابية دراسة موثقة ماتزال من أكثر الدراسات عمقا وتوثيقا، وصالحة للرد على اتهامات، هناك أيضا تباريح جريح، حكايات من دفتر الوطن، البورجوازية المصرية وأسلوب المفاوضة، مجموعة وثائق لخدمة زماننا، جلاد دنشواى،، ومنها مصرع مأمور البدارى وحكايات ريا وسكينة، وهو الكتاب الذى أخذ منه المسلسل الشهير، وهو توثيق من واقع المحاضر وتحقيق تاريخى كتب بأسلوب درامى ممتع. قدم صلاح عيسى التاريخ بشكل يجمع بين العمق والجدية، والأسلوب البسيط الممتع الجامع بين الشاعرية والعمق. وكل منها درس.
مبكرا جدا عندما كنا فى بداية عملنا الصحفى، نطلب الأستاذ صلاح عيسى ليلا أو نهارا ـ قبل الموبايل ـ فى منزله أو مكتبه بالأهالى، دائما يرد، ويجيب على أسئلتنا، ويوجهنا، وإن كان الموضوع خارج تخصصه، يحدد لنا المصدر المناسب، ولا يمانع من فتح أجندة تليفونه ليقدم لنا رقم مصدر، أو يشير علينا بكتاب أو تقرير أو صحيفة يمكن أن تفيدنا. ما أن يرد ويعرف اسم الطالب يرد من فوره: «عاوز إيه ياجميل».
بعضنا يحب أن يذكر للأستاذ صلاح عيسى أنه معجب به وأنه قرأ له كذا وكذا.. فيسارع بالقفز خجلا على المدح ليقول: عاوز إيه. نذكر له الموضوع، فيسأل: عاوز تحليل ولا رأى ولا معلومات؟. فنرد طمعا: كلهم يا أستاذنا. فيقول رأيه وتحليله للأمر، ثم يقدم معلومات ومصادر ومراجع يمكن اللجوء إليها. كان هذا درس مهم أنه لايتأخر فى تقديم خبرته ومعلوماته وأرشيفه لزميل فى بداية حياته.
ولحسن حظى أننى وعدد من الزملاء والأصدقاء عملنا بجانب الأستاذ صلاح عيسى سنوات، كانت لنا حوارات ومناقشات ظل فيها هو نفسه الكاتب المعلم بتواضع وعمق وبساطة.. كنا نختلف معه ونتفق ونكتشف مع الوقت كيف كانت له نظراته الأبعد ونظرياته التى لاتخيب ويتضح صحة الكثير من توصيفاته لأشخاص ووقائع.
يستحق أن تتحرك أجهزة الدولة، وزارة الثقافة، ونقابة الصحفيين والمجلس الأعلى للإعلام، لتسانده فى مرضه، وهو كان وظل دائما كاتبا على باب الله.ومعروف أن صلاح عيسى عندما كان عضوا بمجلس نقابة الصحفيين لم يتوان عن مساندة زملائه فى كل محنة سياسية أو مرضية.
وأشهد أنه عندما عملت تحت رئاسته بجريدة القاهرة، لم يتأخر عن مساندة مثقفين أو صحفيين، عن طريق الاتصال بوزير الثقافة الأسبق فاروق حسنى ومرات كثيرة كنت شاهدا على مواقف يسارع فيها بنجدة أو مساندة مثقف أو كاتب فى أزمة. وليس أقل من نقل الكاتب الكبير إلى أحد المستشفيات العسكرية،حتى ينفض المرض ويعود علينا، وهو ما حدث بجهد عدد من الزملاء.
صلاح عيسى الكاتب والمؤرخ والمفكر والمعلم الكبير، صاحب مقولات ومنحوتات تسجل باسمه، جامعا بين دقة المؤرخ وروح السخرية وتفاوضية السياسى. حلم الثورى وواقعية السياسى، من دون أن يفقد نفسه. قطعا سوف يعود لنا ويقوم من مرضه، ليواصل وجوده وأستاذيته. أستاذ صلاح عيسى «ألف سلامة ياجميل» وكل عام وأنت تضىء بيننا.