انتقل صناع القرار على المستوى الاستراتيجى فى دوائر الإدارة العليا بإيران من التفكير فى تكوين الميليشيات الشيعية بالعراق وإدماجهم داخل الحياة السياسية كفصيل مسلح يتماهى مع تجربة حزب الله فى لبنان، إلى مرحلة جديدة تختلف جذريا عن كل الثوابت والأسس التى حاولوا تصديرها إلى العالم فى السنوات الأخيرة، وهى تشكيل ميليشيات مسيحية فى المناطق التى تم تحريرها من داعش.
منطقة سهول نينوى على خريطة العراق
وتؤكد دراسة النظام السياسى الإيرانى أنه يعتمد على استراتيجية كبرى تقوم فى جذورها على ثلاث ركائز أساسية وهى البعد الدينى الإسلامى والبعد المذهبى الشيعى الإثنى عشرى والبعد البراجماتى النفعى الذى يحقق لطهران مصالحها بغض النظر عن أى اعتبارات أخرى.
وحتى تكون صورة الوجود الإيرانى فى العراق ماثلة على نحو أوضح، فأنه من المفيد التأكيد على عدد من الاعتبارات التى تشرح أسباب إصرار طهران على مواصلة انخراطها فى هذا البلد:
أولا:
تريد إيران الإبقاء على الخط البرى موصولا من طهران إلى حزب الله فى جنوبى لبنان، مع العلم أن هذا الخط لن يظل موصولا إلا بالوجود الإيرانى الكثيف فى منطقة الهلال الشيعى التى تمر بالعراق وسوريا؛ لذلك تنفق الجمهورية الإسلامية بسخاء لإبقاء نظام حزب الدعوة الإسلامى فى العراق ونظام الحزب البعثى العلمانى فى سوريا.
ثانيا:
تريد إيران أن يظل العراق خاضعا لها تماشيا مع الثقافة الاستراتيجية الإيرانية التى تجمع على نحو لا ينفك بين ضرورة السيطرة والشعور بالكبرياء القومى وبين الشعور العميق بعدم الأمن الناتج عن الخبرة الإيرانية التاريخية فى الغزوات التى تعرضت لها على يد المغول فى العصور السابقة والهجمات العنيفة التى تعرضت لها على يد الرئيس العراقى الأسبق صدام حسين فى التاريخ المعاصر، ولذلك يمثل العراق بالنسبة لها حائط صد ضد أى تدخل برى أجنبى من جهة الغرب.
ثالثا:
تستهدف إيران الإبقاء على الورقة العراقية كأداة ضغط إقليمية استراتيجية فى مواجهة أى احتمالات تصعيدية من جانب الولايات المتحدة الأمريكية أو الاحتلال الإسرائيلى؛ لذلك قامت قوات الجو ـ فضاء التابعة للحرس الثورى بإطلاق مجموعة من صواريخ "ذو الفقار" الباليستسة متوسطة المدى من الأراضى العراقية يوم 18 يونيو الماضى، نحو أهداف فى دير الزور السورية، وحملت تلك الصواريخ بطبيعة الحال رسائل متعددة إلى اللاعبين الإقليميين والدوليين بهذا الخصوص.
فى الحالة التى بين أيدينا تجاوزت إيران الركيزتين الأوليين وقفزت إلى الركيزة الثالثة والأخيرة متعدية المسألة الدينية الإسلامية والمسألة المذهبية الجعفرية إلى التعاون مع مجموعات وطوائف ليست إسلامية ولا تدين بمذهب الإمام الغائب بطبيعة الحال، وهى مجموعات الطوائف المسيحية فى محافظة نينوى تلك التى تحررت من أسر تنظيم داعش بعد أن فرض سيطرته عليها لمدة راوحت 3 أعوام.
فى تحقيق مفصل كشفت قناة "فوكس نيوز" الأمريكية هذا المتغير الخطير فى السياسة الإيرانية بالعراق وقالت إن المسيحيين الذين يصفون شمالى العراق باعتباره موطنهم منذ القرن الأول الميلادى والذين يتعافون من مذابح داعش، بصدد مواجهة تهديد ناشئ ـ يخشون أن يكون مجرد تحديا ـ وهو النفوذ الإيرانى المتزايد فى بلادهم.
ولفتت القناة فى التحقيق المطول الذى نشرته من خلال موقعها على الإنترنت تحت عنوان "تحت التهديد؟ تسلل إيران الهادئ إلى الطوائف المسيحية العراقية" إلى أن هذا النفوذ الإيرانى المتعاظم يأتى فى مجموعة من الأشكال والمكونات، وهو التغلغل داخل المجتمع المسيحى نفسه.
منطقة سهول نينوى فى العراق
وأوضحت كاتبة التحقيق، هولى ماكاى، أن الأكثر فتكا، هو التغلغل الإيرانى فى الأوساط المسيحية الذى يشمل التسليح المباشر والتمويل لميليشيا بارزة من المسيحيين العراقيين، مضيفة أن الأهداف الحقيقية للميليشيات الجديدة، المعروفة باسم لواء بابل، تقلق هؤلاء المسيحيين الذين لا يزالون متواجدين فى العراق أو حتى أولئك الذين يفكرون فى العودة إلى وطنهم القديم، والمعروف باسم سهول نينوى.
ونقلت ماكاى عن سالم هناء، طبيب أسنان مسيحى عراقى يبلغ من العمر 33 عاما، قوله: "كان لدينا داعش، ونحن الآن نكافح مع هذا الدور الإيرانى المتزايد، والديموجرافيات المتغيرة، فسهول نينوى هى جزء مهم من الهلال لربط إيران بسوريا، ولكن هذا سيكون له تأثير سلبى على بقاء المسيحيين العراقيين فى مناطقهم الأصلية".
ولفتت ماكاى إلى أن لواء بابل الذى يقوده ريان الكلدانى البالغ من العمر 32 عاما ينسجم بشكل وثيق مع منظمة بدر وهى حزب سياسى وميليشيا تأسست فى طهران برئاسة وزير النقل العراقى السابق هادى العامرى، وتعهد بدر رسميا بأن "أى انتهاك لبابل يعنى انتهاكا لبدر".
يقول السكان المحليون المسيحيون إن أحد معالم المدينة قبل أسابيع قليلة كان يحمل صورة مريم العذراء ولكن تم استبداله بصور للمرشد الأعلى فى إيران آية الله على خامنئى
ومن الجدير بالذكر أن ريان الكلدانى، يشغل منصب أمين عام حركة بابليون المسيحية العراقية، ويحتفى به الإعلام الإيرانى والإعلام العربى الممول من إيران ولذلك يظهر بصورة بطولية فى قنوات عراقية ولبنانية مدعومة مباشرة من الحرس الثورى الإيرانى، ما يعنى أنه بالفعل يؤدى دورا وظيفيا لتحقيق الاستراتيجية الإيرانية.
فى غضون ذلك ما يزال بعض المسيحيين ممتنون حقا للعمل والتضحية من أجل الميليشيات التى أبعدت داعش، وقال العديد من المسيحيين العراقيين إنهم يشعرون بالقلق من أن إيران، موطن الإسلام الشيعى، لا تمول وتجهز لواء بابل من أجل الدافع الدينى فقط؛ بل من أجل أهداف أخرى على المستوى الاستراتيجى.
وللتدليل على تلك التخوفات قال، أنو جوهر عبد المسيح عبدوكا، وهو ناشط مسيحى فى أربيل ويعمل فى مجال تحليل أنماط العلاقات الدولية "إن إيران تمول بشكل مباشر ميليشيات مسيحية حتى تتمكن من توسيع سلطتها فى سهول نينوى".
قرية القوش المسيحية فى سهول نينوى شمالى العراق
فى تلك الناحية عادت ماكاى للتأكيد على أن المسيحيين العراقيين ليسوا فقط الذين يشعرون بالقلق إزاء سخاء إيران وتمويلها الميليشيات المسيحية، بل إن عضوا بارزا فى الكونجرس الأمريكى سابقا وهو، فرانك وولف، الذى قام بتتبع القضية فى العراق شخصيا، قال إن "هذه مشكلة حقيقية وإن العالم يتطلع إلى الاتجاه الآخر، وهو الجسر البرى الذى يمكن الشاحنات والأسلحة الإيرانية من الذهاب إلى البحر الأبيض المتوسط، وبذلك تكون إيران فى طريقها نحو تحقيق الهدف".
ولأن هذا الجسر البرى، المعروف أيضا باسم الهلال الشيعى، الذى يمتد من طهران عبر شمالى العراق وسوريا ومن ثم إلى جنوبى لبنان، سيتحقق، فأن إيران تحتاج إلى أراضى تقطنها الطائفة المسيحية المتناقصة بسرعة، وهذه الأراضى تحديدا هى سهول نينوى، ولا يزال العديد من أفراد هذه المجتمعات مشردين بسبب داعش، وبالتالى لا يستطيعون حماية منازلهم، وعلى مدى الشهرين الماضيين، أصبح هذا الطريق البرى متماثلا نحو الاكتمال.
فى السياق، قالت "فوكس نيوز" فى التحقيق، إن أحد الأسباب المثيرة للقلق هو الصداقة الوثيقة بين الكلدانى، زعيم لواء بابل، وأقوى شخصية عسكرية فى إيران، وهو الجنرال قاسم سليمانى، وتعليقا على ذلك قال الكلدانى متحدثا من مكتبه فى بغداد "بدون سليمانى كانت أجزاء كبيرة من العراق ما تزال تحت سيطرة داعش".
ريان الكلدانى يرسم مناورات عسكرية خلال تحرير المناطق المسيحية من داعش
وأضاف الكلدانى وهو زعيم الميليشيات المسيحية أن سليمانى هو الآن يعمل "مستشارا كبيرا فى الحكومة العراقية"، وأنه نصح بمعارك لاستعادة المناطق المسيحية من داعش فى العراق، بل أخذ الأمور خطوة أخرى على الحدود فى سوريا حيث "قاد شخصيا المعارك لتحرير المناطق المسيحية وأراد أن يلعب دورا قياديا فى تحرير هذه الأراضى وأراد حماية الأماكن المقدسة".
وبصرف النظر عن الصلات المقلقة بين لواء بابل والحرس الثورى الإيرانى، وتحديدا فيلق القدس الذى يعد الذراع الخارجية للحرس الثورى، يجد المدنيون المسيحيون أن التأثير الإسلامى الإيرانى يتسلل إلى حياتهم اليومية، وهذا التأثير داخل سهول نينوى، يأتى بينما العديد من المسيحيين أصبحوا يعيشون على أرض مرثية بشكل أكثر وضوحا من أى يوم مضى.
وللتدليل على النفوذ الإيرانى المتنامى فى سهل نينوى، تلك الأراضى المسيحية التاريخية فى العراق، قال الأهالى لـ"فوكس نيوز" إنه ليس من غير المألوف الآن ظهور الملصقات التى تبرز صورة المرشد الأعلى الإيرانى السابق آية الله الخمينى عند نقطة تفتيش بالقرب من مدخل البلدة السريانية المسيحية فى بارتيلا، بعد أن تم نزع عناصر من فيلق القدس ملصقا لصورة السيدة مريم العذراء الشهر الماضى وتم استبدالها بصورة الخمينى جنبا إلى جنب مع خليفته آية الله على خامنئ.
ريان الكلداني قائد لواء بابل فى مقره قيادة عملياته فى بغداد
ولفت الأهالى إلى أنه فى أواخر سبتمبر الماضى علقت مدرسة اسمها "بعد الخمينى" لافتة كبيرة عبر أطول مبنى صورة للخمينى إبان مراسم الافتتاح تلك التى حضرها القنصل الإيرانى العام فى أربيل مرتضى عبادى.
ونوه روميو هاكارى، الذى يرأس حزب بيت النهرين، وهو الحزب السياسى المسيحى الآشورى فى العراق، فى حديثه مع "فوكس نيوز" إلى أنه يلقى شكاوى يومية من المسيحيين المقيمين عبر سهول نينوى حول بناء منازل من الغرباء، يفترض أنهم من الطوائف الشيعية بمن فيهم الأقلية الشيعية التى تعرف باسم "الشبك" والتى ينتشر أتباعها فى القرى حول مدينة الموصل ويشكلون مع المسيحيين غالبية سكان سهل نينوى، ويلتزمون بالعديد من ركائز الإسلام الشيعى على المنهج الإيرانى الإثنى عشرى.
هاكارى أوضح قوله: "من الواضح أن هناك خطة أكبر للتغيير الديموجرافى ومن المؤكد أن المسيحيين يشعرون بضغوط متزايدة لبيع أراضيهم من جراء اليأس المالى الذى فقدوا معه كل شىء بعد داعش، وخوفا من أن تكون أراضيهم قد أخذت منهم فى لصالح مستوطنات إيرانية على أى حال".
الممثل المسيحى السياسى البارز فى العراق روميو هاكارى
واختتمت ماكاى تحقيقها بسرد واقعة تدل على أن هناك بالفعل مخططات إيرانية لإعادة تشكيل المنطقة ديموجرافيا حيث شهدت مدينة بغديدا التى يشار إليها باسم "قرقوش" المسيحية فى العراق فى منطقة الحمدانية بمحافظة نينوى، اشتابكا بين الناشطين المسيحيين الشبان على خلفية قرار وجهت به جامعتهم الصغيرة "جامعة الحمدانية" وفقا لوزارة التعليم العالى الاتحادية، لقبول ما يزيد على 180 من الطلاب الشيعة معظمهم من الشيعة الذين يتحدرون من وسط وجنوبى العراق.
القائد العسكرى الإيراني قاسم سليمانى
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة