لكل أمة دور عبادة خاصة بها، فللمسلمين مساجدهم، ولليهود معابدهم، وللمسيحيين كنائسهم، وملكية دور العبادة لله عز وجل وليست للبشر وإن بنوها فى أرض تخصهم، فالإنسان وما فى الكون جميعًا ملك لله عز وجل، ومن ثم فإنه إذا خُصص جزء من الأرض ليكون بيتًا لله تعالى عاد إلى مالكه الأصلى، وارتفعت عنه ملكية البشر التى هى ملكية اختصاص وليست ملكية حقيقية، يقول الله تعالى: «وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا»، ولذا فإنه إن تسلط مخلوق على بيت من بيوت الله فمنع عابدًا من دخوله كان ظالما، وقد وعد الله من يفعل ذلك بالخزى فى الدنيا والعذاب العظيم فى الآخرة، يقول الله تعالى: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِى خَرَابِهَا أُولَٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْى وَلَهُمْ فِى الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ». ويزداد الذنب إثمًا والخزى قبحًا متى كان المنع والسعى لتخريب بيت من بيوت الله المعظمة والمفضلة على غيرها.
ومساجد المسلمين أعظمها ثلاثة، حددها رسولنا الأكرم - صلى الله عليه وسلم - فى قوله: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدى هذا، والمسجد الأقصى». ومن المعلوم أن المسجد النبوى الشريف بالمدينة المنورة قد قدر الله له أنه لم يقع تحت سيطرة غير المسلمين من تاريخ بنائه إلى وقتنا هذا وإلى أن تقوم الساعة بمشيئة الله تعالى، أما بيت الله الحرام فلم يُكتب له ذلك؛ حيث بنته الملائكة ابتداء ثم أعاد بناءه الخليل إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، ثم أتت عليه عصور الجاهلية، ومورست فيه الوثنية، وتزاحمت حوله الأصنام التى احتاجت إلى من يكسرها فى نفوس الناس ابتداء، بل أن يحطمها كما حطم إبراهيم الخليل أصنام قومه من قبل، فعوقب بالحرق وأُلقى فى النار فعلًا لكن النار أبت أن تنال منه بل كانت بردًا وسلامًا عليه، فكان نبى الرحمة - صلى الله عليه وسلم - الذى دعا الناس إلى عبادة الله وحده، وطهر البيت الحرام مما كان حوله من أصنام، وحرر الناس من بقايا الوثنية وسيطرة الجاهلية على أشرف بقاع الأرض، فأصبح البيت الحرام بمكة المكرمة من وقتها خالصًا للمؤمنين تهفو إليه قلوبهم، وتفد إليه وفودهم من كل فج عميق إلى يوم الدين بإذن الله. وأما المسجد الأقصى ثالث المساجد المعظمة فى الإسلام، فقد تعاقبت عليه الأيدى، فهو فى أيدى المسلمين تارة وبين أيدى غير المسلمين أخرى، حتى وضع الصهاينة عليه أيديهم الملوثة بالدماء الطاهرة الزكية التى هبت لنصرته وتخليصه من الأسر الذى طال أمده، لكننا موقنون بأن يوم خلاصه آتٍ لا محالة، فتحرير المسجد الأقصى وعودته للمسلمين خالصًا وعدٌ فى كتاب ربنا لن يتخلف، حيث يقول الله تعالى: «فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا»، فعودة الأقصى للمسلمين قضية محسومة لا يخفى علينا إلا وقتها، ولعله قريب إن شاء الله.
وحتى يأتى هذا الموعد الذى لن يتخلف لأنه وعد إلهى غير مكذوب، على المسلمين ألا ينسوا أو يحاول أحد أن ينسيهم أو يلفت أنظارهم بعيدًا عن تلك القضية الأهم بالنسبة لجميع المسلمين حول العالم، فالمسجد الأقصى هو أولى القبلتين، وثالث الحرمين، ونهاية مسرى خاتم الأنبياء وبداية معراجه إلى السموات العلى، يقول الله تعالى: «سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ». وعلى المسلمين حول العالم أن يدركوا واقعه الأليم، وأن يعوا جيدًا ما يحاك لقبلتهم الأولى التى لا تقل شرفًا وتعظيمًا عن بيت الله الحرام، فرغم أن المؤسسات الدولية والهيئات الأممية تعلم وتشهد وتقر مواثيقها ومعاهداتها بأن المسجد الأقصى مسجد إسلامى عربى تحت الاحتلال، فإنهم يغضون الطرف عن انتهاكات المحتل بحقه منذ عقود من الزمان، ولا يتحرك لهم ساكن وهم يتابعون ما يجرى من حفريات لتخريب بنيانه، ومحاولات طمس هويته، وتغيير واقعه، وسعيهم لهدم حائط البراق - الذى يسمونه كذبًا حائط المبكى - لتشييد الهيكل الذى يزعمون أنه شُيد عليه، فضلًا عن التضييق على من يريد الصلاة فيه، ومنع فئات عمرية معينة من دخوله، بل إغلاقه فى وجه الجميع مرات متعددة، ونصب الحواجز الحديدية فى محيطه ووضع كاميرات المراقبة بداخله والتفتيش المهين لقاصديه، ناهيك بالاعتداء الآثم على المسلمين قتلًا وجرحًا واعتقالًا، كل ذلك يحدث فى صمت مخزٍ من المجتمع الدولى الذى لم يكترث لكل هذه الانتهاكات، ولو أن ما حدث ويحدث من الصهاينة كل يوم على مرأى ومسمع من العالم فى القدس الشريف خاصة وفى الأراضى الفلسطينية عامة، قام بعُشر معشاره بعض الفلسطينيين تجاه معبد يهودى ولو كان مهجورًا، لقامت الدنيا ولم تقعد، ولتحركت الدول الكبرى والصغرى، ولشنت المؤسسات الدولية والهيئات الأممية ومنظمات حقوق الإنسان حملة لا هوادة فيها على المستوى الرسمى والإعلامى تتهم فيها الإسلام بالتطرف والإرهاب، وتصم المسلمين بالهمجية والعنصرية وانتهاك المقدسات، وتصف ما حدث بأنه أبشع صور الإرهاب، ولربما تحركت الجيوش لإنقاذ اليهود المستضعفين من أيدى المسلمين الفلسطينيين الإرهابيين!
وليعلم الصهاينة ومن يقف خلفهم أن المسجد الأقصى إسلامى عربى كان وما زال وسيبقى، وإن ظن هؤلاء أن تطاول الأزمنة وتزييف التاريخ وتغيير الواقع سينسى العرب والمسلمون قبلتهم الأولى فهم واهمون، وليعوا جيدًا أننا قبلنا السلام معهم إيمانًا بمبدأ فى كتاب ربنا يقول: «وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ»، وإن عدتم عدنا، فالسلام لمن سالم، أما من اعتدى وأصر على العداء، فإن فى كتاب ربنا مبدأ نؤمن به كذلك يقول: «فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ»، وعلى الدول الكبرى أن تكيل بمكيال واحد فى تعاملها مع قضايا العالم، وألا تفرق بين أتباع دين وآخر، وأن تكف عن الانحياز والدعم المطلق لهذا الكيان الغاصب الذى غرسوه فى بلادنا وعاملوه كطفل مدلل ظلمًا وعدوانًا، وليعلموا أن ما يحدث بحق المسلمين ومقدساتهم يمثل بيئة خصبة للتطرف والإرهاب الذى يهدد الأمن والسلم فى العالم وليس فى منطقتنا المنكوبة فحسب.
ومن ثم، فإن على حكوماتنا العربية والإسلامية أن تعد العدة، وأن تكون على أهبة الاستعداد إيمانًا بقول ربنا: «وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ»، وأن تضع نصب أعينها قول ربنا: «وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ». وعلى المنظمات والهيئات العربية والإسلامية أن يتحملوا مسؤولياتهم، وأن يكونوا على مستوى الحدث، وأن يبرئوا ذمتهم أمام الله وأمام الشعوب والتاريخ، وأن يقوموا بواجبهم بجدية وفاعلية لنصرة القدس وتحرير الأقصى الأسير.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة