الزيارة التى يقوم بها وزير الخارجية سامح شكرى لإثيوبيا، هى خير تأكيد على المفاهيم الجديدة، التى تعتمد عليها مصر فى علاقاتها الدولية، فهى دائما تتحرك حتى آخر لحظة، ولا تمل حتى وإن واجهتها العديد من المصاعب مثل الموجودة حاليا فى علاقتنا مع أديس أبابا بشأن مفاوضات سد النهضة، التى يواجه المسار الفنى لها العديد من العقبات، فكان من الممكن أن تغلق مصر الباب، وتبدأ فى البحث عن طرق وآليات جديدة، لكنها اختارت مواصلة الحوار مع البحث أيضا عن آليات جديدة، لكنها تزيد من قيمة الحوار، ولا تنتقص منه، خاصة أن مصر بعد 30 يونيو 2013، تنتهج سياسة جديدة أعلن عنها مرارا الرئيس عبدالفتاح السيسى، تقوم على الحوار والاستفادة المشتركة وإعلاء المصالح المشتركة.
زيارة شكرى الحالية لأديس أبابا ولقاؤه نظيره الإثيوبى وركنا جيبيو، تعد داعمة لخيارات الدولة المصرية التى تعتمد الدبلوماسية ومسارات التفاوض والتفاهمات مع دول القارة السمراء فى إدارة ملف مياه النيل، وأزمة سد النهضة الإثيوبى بشكل خاص، فهى زيارة يمكن وضعها فى إطار تحرك جديد يستهدف كسر الجمود الخاص بالمسار الفنى المتمثل فى أعمال اللجنة الفنية الثلاثية المعنية بسد النهضة، أو كما قال المتحدث باسم الخارجية المستشار أحمد أبوزيد: «إنها تأتى اتساقا مع منهج مصر الثابت خلال المرحلة السابقة فى التعامل مع القضية، من منطلق الالتزام الكامل ببنود الاتفاق الإطارى الثلاثى، وإبداء حسن النية والرغبة فى بناء الثقة وإرساء دعائم التعاون، مع الحفاظ الكامل على مصالح مصر المائية المشروعة».
الوضع بالفعل معقد، فيما يتعلق بمفاوضات السد، وزاد من تعقيده الموقف الأخير من جانب السودان، الذى أبدى انحيازه الكامل للموقف الإثيوبى، لذلك كان لا بد من موقف مصرى يحرك السكون الذى سيطر على المشهد، فجاءت زيارة شكرى الذى عليه أن يقدم ويطرح للإثيوبيين ما لدى مصر من أفكار ومقترحات تخرجنا جميعا من الوضع الحالى، آخذا فى الاعتبار أن استمرار التعقيدات بهذا الشكل سيكون لها تأثيرات سلبية على علاقات الدول الثلاث مستقبلا، وهو الأمر الذى لا تقبله مصر الحريصة بشدة على إقامة علاقات قوية ومتوازنة وقائمة على التعاون بين الدول الثلاث، لذلك طرحت أفكارا تستهدف مساعدة الدول الثلاث المعنية بالملف على اعتماد التقرير الاستهلالى المُعدّ من جانب المكتب الاستشارى فى أسرع وقت، لضمان الانتهاء من الدراسات الخاصة بالسد، فى نطاق الإطار الزمنى المحدد فى اتفاق إعلان المبادئ الموقع فى الخرطوم قبل عامين بين قادة الدول الثلاث.
الواقع يقول إن تحرك مصر الأخير جاء فى ضوء رؤيتها أن المشهد برمته يلقى بظلال غائمة على الجميع، كما أنه يفتح الباب على مصراعيه للكثير من الاستنتاجات التى قد لا تكون فى صالح أحد، خاصة أن كل دولة تتمسك بموقفها، وهو ما يتطلب تحركا مسؤولا حتى لا نعود إلى نقطة الصفر مرة أخرى، فقررت مصر أن تأخذ زمام المبادرة ليقينها أن توقف مسار المفاوضات الفنية، سيكون له تأثيرات غير مقبولة نتيجة تأخر عملية إعداد الدراسات التى من شأنها أن تحدد الآثار المحتملة للسد على مصر وكيفية تجنبها، لا سيما أن اتفاق إعلان المبادئ الموقع بين مصر وإثيوبيا والسودان فى مارس 2015 يلزم الدول الثلاث بالتوصل إلى اتفاق حول سنوات ملء خزان السد، وأسلوب تشغيله، فى ضوء نتائج تلك الدراسات.
لا أحد يستطيع ضمان أن تسفر التحركات المصرية عن تغيير فى المشهد، لكن من الواضح أن الحكومة الإثيوبية تدرك خطورة الموقف الحالى على الجميع، وأنه ليس من مصلحة أحد أن يتمترس خلف موقفه رافضا قبول أو حتى التفاوض حول المقترحات المطروحة لإحداث انفراجة، لذلك جاءت ترتيبات أديس أبابا لزيارة يقوم بها رئيس وزرائها ديسالين للقاهرة، ربما فى يناير المقبل وقبل انعقاد القمة الأفريقية، وايضاً استقبالها لشكرى، وما نلمسه من تحرك وتصريحات لسفيرها فى القاهرة، الذى ينتهج سياسة مغايرة لتلك التى اعتمد عليها سلفه محمود درير، التى أضرت كثيرا العلاقات بين البلدين، فكل هذه المؤشرات تقودنا إلى أن أديس منفتحة على الحوار البناء مع مصر، رغم وجود أطراف أخرى تحاول العرقلة، وهو ما يزيد من طمأنتنا أن القاهرة وأديس سيتمكنان من التوصل لتفاهمات تؤدى إلى كسر حالة الجمود الحالية، بالاتفاق والتشاور مع السودان، باعتباره الشريك الثالث فى الاتفاق، رغم أدواره السلبية كما سبق وأشرت فى أكثر من مناسبة.
علينا جميعا أن نترك الماضى بكل ما به من مآسى، وأن ننظر للمستقبل الذى تريده الدول الثلاث لأبنائها، مستقبل به تعاون مشترك وتنمية تخلص هذه الدول من ويلات الماضى، لكن كل ذلك لن يحدث إذا استمرت هذه التعقيدات أو العناد الذى سيضر بالجميع.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة