اعتدنا الشجار كل يوم، لا نمل منه أبداً، وبخاصة قبل خروجى إلى العمل صباحًا، ثم أظل طوال الطريق أسترجع ما حدث وألوم نفسى على الزواج من رجل لم ينجح فى إتمام شىءٍ واحدٍ، فأخفق فى التعليم، ورفض الفلاحة مهنة أبيه وكل أسرته، وعند الزواج وعدنى بحياة مثالية إذا وافقته على الانتقال إلى القاهرة، وبعدها لم يزد عن كونه عاملاً لدى مقهى شعبى أفسد دخان الزبائن صدره فيمكث أيامًا دون شغل، مما اضطرنى للعمل حتى أسد أفواه أولادى الثلاثة وأمى المقيمة معنا فى غرفتين وحيدتين على خصام دائم مع الشمس والهواء، فأظل أردد الكلمات ذاتها كل صباح أثناء السير حتى اصطدم بباب الشقة التى سأقوم بتنظيفها، فلا أمل من السخط على زوجى وعلى نفسى وعلى القدر وعلى كل من يدب بالحركة من حولى، وأسأل نفسى فى كل مرة تفتح لى الباب سيدة المنزل، ماذا تزيد عنى كى أقوم بخدمتها، فلو كان لديها رجل مثل زوجى ما صارت الأحوال هكذا، فلا اختلاف بيننا سوى المساحيق والملابس الثمينة التى ترتديها، فهل سأرتدى مثلها يوما؟، أم أننى سأعيش فقط لأزيل عنها القاذورات كى يحيوا فى نظافة وهدوء وسلام، وأعود أنا منهمكة وقد انتهى اليوم دون أن أشعر بالبهجة ولو للحظة واحدة، حتى المال الذى أجنيه لا أنفق منه سوى القليل فندخر معظمه حتى نستطيع شراء سكناً آدميا يليق بستة أفراد، يا ترى من ستكون سيدة المنزل اليوم؟.
طرقت الباب عدة مرات دون جدوى، فقلت لنفسى: ما هذا الاستهتار؟ ألا يراعون مشاعر الآخرين وأوقاتهم؟ أكيد مثلنا ليس لأوقاتهم ثمناً، فأخذت أطرق الباب بشدة لأذهب غيظى والأمل يتضاءل بأن يفتح الباب، فقلت ضاع اليوم بلا عمل ولم أجنِ سوى ضياع أجرة الحافلة والسير أكثر من نصف ساعة للوصول لهذا البيت المتطرف، فلا يجوز دخول العربات العامة شوارعهم كأنها تحمل كائنات مغايرة عنهم، ما هذا الهراء؟، سأعود ألى أمى وأولادى بلا شىء سوى نظرة الهم التى اعتادوا عليها.
وعند هبوطى درج العمارة اصطدمت بحارس العقار يصرخ فى وجهى: ما هذا الإزعاج؟!، فقلت: ألا يوجد أحد فى شقة (4)، آه انت تريدين عفاف هانم، حضرة المستشار ترك لك المفتاح، لأن عفاف هانم لا تستيقظ الآن.
قلت: ما هذا الدلال يا سيدة المنزل ولكننى سرعان ما تخلصت من حيرتى وقبضت على مفتاح الشقة فلا أريد إضاعة المزيد من الوقت.
(2)
عندما فتحت الباب وقعت عينى على شقة فخمة وواسعة بصورة مخيفة ولم أجد صوتاً واحداً أو أى غرض يدل على الحياة، فمشيت بخطوات حذرة وكدت أتراجع نحو باب الشقة فأوقفنى صوت دافئ:
من؟
- أنا ليلى.. اتصل بى حضرة المستشار لتنظيف الشقة.
- صباح الخير يا عزيزتى المطبخ والحمام آخر الطرقة على اليمين.
- هل أحضر لك طعاماً.
- لا .. سانام أخبرينى عندما تنتهين.
مرت ساعات كثيرة وأنا أنظف المنزل الصامت دون أن أرى تغييراً لأى ساكن، فلم يدق جرس التليفون أو جرس باب الشقة، ولم أسمع أى صوت سوى المرأة التى حدثتنى فى الصباح، لم يتبق سوى غرفتها، طرقت الباب، وناديت بهدوء :
- عفاف هانم.
- ادخلى يا ليلى.
لا أنكر أننى صدمت من رؤية المرأة متكئة على عصا متينة تساعدها على الحركة رغم أنها لم تتجاوز العقد الرابع من عمرها، لكننى تعودت على هيأتها بعدما مضى وقت طويل وهى تتحدث عن قصة زواجها، والسعادة التى غمرت حياتهما فى السنوات الأولى وكيف كان زوجها رائعا دوما، وأخذت تحكى بلهجة فخورة وسعيدة محاولة إخفاء حسرة دفينة، فتبرر غيابه عنها بالأيام والليالى بقناعة نادرة، واستعاضت عن ذلك بخادمة ماهرة ولكنها فى إجازة اليوم.
كنت قلقة وكأن على كتفى أحمالا وأرغب فى إنهاء غرفتها والعودة قبل الليل، لم أقدر على مواراة قلقى، فشعرت السيدة وبدا الضيق على وجهها، حاولت الخروج من هذا المأزق فقلت لها يبدو أن المستشار يعتنى بك جيدا فكان يلح على بالحضور باكرا كى لا تكونين وحيدة، خرجت من الغرفة محاولة الإٍسراع من خطواتها، لكن لم يسعفها عكازها، أنا لست وحيدة، فهو لا يتركنى، أعلم جيدا أنه متزوج من أخرى ولديه أبناء، لكنه لم ينس أيام الماضى وسعادتنا سويا قبل مرضى فأتى لى بكل شىء ولدى...، سكتت السيدة فانشغلت بغطاء رأسها الذى تحرك قليلاً، فأسرعت فى إعادته، احتبست الدموع وراء عينى تحرق قواى وأنا أنظر إليها فى صمت عاجز.
دخلت غرفتها أرتب أغراضها وقد انتابنى شعور مختلف بالرضا التام عن تنظيف الغرفة والرغبة فى قضاء وقت أطول فى المكان فوقعت عينى على الكم الهائل من الأدوية أصابنى الفضول للاقتراب منها، ليتنى ما اقتربت، فتأكدت من سبب انزعاجها بعد رؤيتى لرأسها دون غطاء، إنه المرض القاهر، ما هذا العناء يا سيدة المنزل فجعلتينى أشعر للمرة الأولى أننى ضئيلة جداً.
وعندما خرجت من غرفتها، رأيتها باسمة وهادئة تنظر إلى بحنان بالغ وهى تسألنى:
- هل أنت متزوجة يا ليلى؟
- نعم قبل عشرة سنوات، عقب نتيجة دبلوم التجارة.
- سعيدة؟
- لا أعلم
- لكنك جميلة جدا
- يبدو أن الجمال ملازم للحظ السيء
- هل تكرهين عملك؟
اضطررت إليه بسبب زوجى بعدما كنت موظفة بالجمعية الزراعية بقريتى وأجبرنى على تركه حتى لا يشعر أنه أقل منى.
هل تحبين زوجك؟
أبو أولادى.. طيب، ولكن لا يبالى بشىء.
لا يوجد أمر دائم، كل شىء يمكن تغييره، ابتسمى يا ليلى، ستفتح الأبواب المغلقة.
ثم سألتنى:هل تغير النيل كثيراً؟
- ألم تخرجى من فترة كبيرة؟
- يمكن لى أن أطلب من زوجى ذلك ولكن لا أريد أن أكون عبئا عليه ، وقد كنت من سنوات قليلة سنده ودعمه الوحيد فى الحياة، أرغب فى الوجود مع إنسان يستمتع بوجودنا سوياً، يحتاج كل منا إلى الآخر، ليس واجب عليه يؤديه بدافع الشفقة.
نظرت فى الساعة تذكرت أمى وأولادى شعرت السيدة بذلك فقالت لى: عودى إلى عائلتك فقد تأخرت كثيرًا يا ليلى.
(3)
وجدتنى أدفع كرسى السيدة المتحرك نحو باب الشقة، فلم أمنحها فرصة الرفض أو الموافقة، وقلت لها: كل يوم أعود إلى عائلتى مبكراً، فلن يضرهم إذا استمتعنا سوياً ببعض الوقت، فأنا أمر على النيل كل صباح دون أن أنظر إليه فلم أفكر فى الجلوس أمامه أو حتى الاقتراب منه، أتمنى أن تحققى لى هذه الرغبة التى عصفت بذهنى الآن.
لم تجد السيدة أمامها سوى الموافقة، فكانت مندهشة فى بادئ الأمر ثم تقبلت ما يحدث وبخاصة بعد أن أصابنا سحر المياه، فشعرت أنها ذهبت إلى عالم آخر أما أنا فأحسست للمرة الأولى بهدوء وسلام نفسى جديد وكلما نظرت إلى عينى السيدة تضاعفت لدى هذه المشاعر الممتعة، وكأن اجتمعت مياه النيل كلها لتطهرنى وتزيل عنى السواد المغلف لعقلى فينزاح شيئاً فشيئًا.
نسيت الشجار اليومى، وزواجى التعيس وعملى الذى أكرهه كثيراَ، فلم أفكر إلا فى تلك اللحظات الجديدة، وعندما جاء وقت الوداع قالت لي: لا يوجد شىء يعادل ما صنعتيه معى اليوم، فقلت: بل أنا الممتنة لك، فقد أهديتننى حياة جديدة بلا سخط يفسد النعم، فالفضل كله لك يا سيدتى وليس عليك، فقالت: ابتسمى يا ليلى حتى يذوب الجليد.
عندما اقتربت من المنزل قررت شراء أغراض لعائلتى وقلت لنفسى: لا بأس سأعوض هذه الأموال بمضاعفة العمل غداَ، يكفينى أن هناك من ينتظرنى آخر اليوم ولدى من يفرح بعودتى فينسينى شقاء النهار.
لست متأكدة أن هذا اليوم سيتكرر ثانية، أو أن عملى سيتغير فى يوم ما، ولكننى متأكدة من أمر ما وهو أننى لن أنسى ما حدث اليوم
وصلت البيت أخيراً ووجدت زوجى ينتظرنى بالخارج قلقاً ومتسائلاَ بعينيه، فقلت:
-اطمئن كل شىء على ما يرام.
-غريبة ابتسامتك اليوم
-نعم.. فسيدة المنزل كانت مختلفة اليوم أكثر مما ينبغى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة