هذا الرّجل!
هل يُمكن أن نصف كاتبًا بـ"النّوراني"؟
"عادل عصمت"؛ الذى اعتبر الفنّ حياة، لا مهنة، الذى يعلّمنا جميعًا كيف تكون أخلاق المبدع الحقيقي! اسمعه وهو يتحدّث فى كلمته عند استلامه جائزة "نجيب محفوظ"، ما كلّ هذا السّلام والاتّساق مع الذّات؟
كاتب لا يريد شيئًا من الكتابة غير التمتّع ليس أكثر، يغزل كلماته، ويلضم الحرف بالحرف، ويوقن أنّ الكتابة الحقيقية مهما تأخّر توهّجها، فهى باقية خالدة، ومهما تعاظمت حولها كتابات أخرى، ومهما ساد المشهد أطيافٌ، فالكاتبُ الحقيقى باق.
يقول "عادل عصمت" فى كلمته عند استلامه الجائزة:
(ما دمت قد ارتضيت أن تعيش فى مدينة صغيرة وتعمل أمين مكتبة وتبنى بيتًا وتنجب أطفالًا، وفى نفس الوقت تريد أن تكتب الروايات، فلابد أن تبذل جهدًا كبيرًا فى جعل الكتابة مثل التنفس؛ أداة يمكنُك أن تستخدمها مباشرة متى لاح لك الفن).
هذه هى حكمته الصّغيرة التى يعيش بها ويكتب من خلالها؛ الرضا، وتنفّس الكتابة، إنّه يعلّمنا باستمرار معنى أن تكون كاتبًا كبيرًا، أن تكون متفرّدًا، ولا يشغلك من الكتابة إلّا فعل الكتابة فى حدّ ذاته، لأنّ الكتابة باقية ولو زالت أسبابها بعد حين، وفى المُجمل؛ يُمكن أن نحسده بقليل من الإعجاب على تجربته الفارقة، المُلهمة بذات الوقت، بالقدر الذى يدفعنا لتعلّم فلسفته التى يتعايش بها وينسج خيوط كلماته، إنّها تجربة للتّاريخ، تجربة عمّن سيموت حتمًا، وعمّن ستبقيه الكتابة، إنّ كتاباته؛ "حكايات يوسف تادرس"، "حالات ريم"، "صوت الغراب"، وغيرها، أبرز دليل على الألم الذى يُمكن للمبدع أن يُشعرنا به، إنّها الكتابة "النّورانية" الحقّة الممزوجة بمثلّ هذا الكمّ من التّجربة والابتكار والبّهاء، التى تجعلنا – وكلّما راقبنا صانعها- نشعر كم هو "نوراني" ويندر وجوده، كاتب تعانده اللّغة؛ فيطويها بين جناحات الأسطر، ويعاقره الخيال؛ فيجدل من وحيه رموزًا آليات وتقنيات وقصصًا لا تخصّ غيره، إنّ الكتابة بالنسبة إلى "عادل عصمت" نشاط يومي، لا يُمكن فصله عن التنفّس، بالأحرى؛ باتت الكتابة فعلًا حياتيًا إن توقّف عنها توقّفت حياته فى حدّ ذاتها، كتابة راسخة رسوخ جبل، ومضيئة كشمس، تحاورنا وتتداخل مع تساؤلاتنا الحائرة، أجل لا تمنحنا أجوبة، ولكنّها تمنحنا راحة التلقّى، واستكانة المتعة والاستفادة، الجُملة السردية التى تسلّم جملة، فأخرى، ثمّ تصنع لغزًا كبيرًا، يؤدّى إلى تفجير تساؤلات عظمى، تدور فى أدمغتنا، فلا ننصرف عن التساؤلات التى فجّرتها كتابة "عصمت" إلّا إلى حالة من الجدلية التى لا يُمكن بحال أن نقف على تداعياتها فى باطن الوعي، وصفه للشّخوص والأماكن، الحالات والمواقف، لا كلمة تحلّ بديلًا عن غيرها، السّياق اللّغوى رمزى إلى حدّ الدلالات الموحية بأكثر من تأويل، وأكثر من مجاز، كيف يُمكن أن نرى الإنسان مجرّدًا! وكيف يُمكن أن نتماس بشكل حيوى مع مأساته ومع دهشته التى صنعتها مواقف حياته البسيطة العادية، بساطة العُمق، وعادية المُشاهدة، مع ذلك؛ هى دهشة أصلها مُجمل الحالة السّردية، لاحظ تقنياته التى يستخدمها، وأدواته التى يبثّ عبرها كلّ آلام ابن آدم، آلام الإنسان وكأنّه عارٍ لم يعرف تقلّبات الزّمن، ولم يُدرك بعد معنى الزّيف، شخوصه يشبهوننا، ولكنّهم يشبهون أكثر طبيعتنا البريئة التى فُطرنا عليها، طبيعتنا التى لم تلوّثها الأحداث التى نُقحم فيها رغمًا عنّا، ولم تعبث بها يد الطاريء من الطبائع اللئيمة؛ طبائع الزّيف والمكر.
يقول استكمالًا فى كلمتِه: (ثم بدأت تمرينًا طويلًا لجعل الكتابة أداة للتأمّل والفهم، كتبت ما خطر ببالي: كلّ مشهد أو حكاية،كتبت أحلامى وأحلام أصدقائي، وأعددت سيناريوهات للحوادث التى تَلفت نظرى فى الجرائد، تم كلّ هذا بغرض غرس الكتابة فى حياتي، لا بغرض إنتاج أعمال فنية، فقد كنت أعرف منذ البداية أنّ الفن عسير، كنت أقول لأصدقائى إن واظب المرء على كتابة صفحتين عن البحر لمدة عشرة أيام، بالتأكيد فى اليوم الحادى عشر سوف يرى البحر بطريقة مختلفة، لا أعرف من أين جئت بهذا اليقين!
فى الغالب لا تضيع الجهود، تثمر فى النهاية فهمًا وتقبلًا لإمكانيات المرء وظروفِه، وتنفصل عن غرضها الأول وتصبح نشاطًا مهمًا فى حد ذاته. كلّما تعرضت لمشكلة أرسم لها خريطة، وأتابع جذورَها، وتداعياتها؛ مجرّد لعبة أخفف بها من أعبائي، كلما لاح انطباع خافت، أسأل: هل يمكن تجسيده فى كلمات؟ كلّما لاحت ذكرى، أسحب ورقة وأرى كيف يمكن تتبع مسارها، من لحظة وجودها كحدث واقعى حتى ظهورها الآن فى الذاكرة.
بمرور السنين تراكمت كمية من الأوراق، أتوه فيها ولا أعرف، حتى الآن، كيف يمكننى تنظيمُها أو الاستفادة منها!).
أجل؛ الفنّ عسير، وما أشقّ الكتابة، ولكن عبر "عادل عصمت" ومن يشبهه من الحقيقيين، سنتلمذس لنا طريقًا إلى الحقيقة؛ حقيقة الكتابة نفسها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة