إذا سمع الناس كلمة «المضاربة» خطر ببال أكثرهم مضاربات البورصة والأسواق المالية، لكن المضاربة التى هى محل تناولنا فى هذه المقالة، هى نوع من الشركات الإسلامية الكثيرة التى جاءت بها شريعتنا الغراء لمصلحة الناس، وتحقيق متطلباتهم فى الحياة، فهى شركة بين غنى لديه مال لا يحسن تنميته بالتجارة، لعدم خبرته، أو ضيق وقته، أو عدم تمكنه من مباشرة الأنشطة التجارية، لأن مهام منصبه تمنعه، أو نحو ذلك، وآخر يحسن التجارة، ولديه الوقت والقدرة على مباشرتها، لكنه لا يجد من المال ما يتاجر فيه، حيث يتاجر هذا العامل «المضارب» مستخدمًا رأس مال الغنى، ثم يقتسمان الربح فى نهاية أعمال المضاربة.
والأصل فى مشروعية المضاربة ما روى أن سيدنا عمر، رضى الله عنه، أرسل جيشًا إلى بلاد الشام، تلبية لطلب من أبى موسى الأشعرى، للمشاركة والدعم فى عمل عسكرى، وكان من بين أفراد الجيش ابنا أمير المؤمنين عبدالله، وعبيدالله، وعند حلول وقت عودتهما بعد أن أنهى الجيش مهمته، قال أبوموسى لهما: وددت لو فعلت لكما شيئًا، إلا أننى لا أجد، ثم استدرك قائلًا: بل أجد، لدىّ مال أود إرساله إلى أمير المؤمنين ليوضع فى بيت مال المسلمين، فخذاه واشتريا به بضاعة من الشام، فإن بعتما ما اشتريتما فى الحجاز فخذا ربحه، وادفعا برأس المال إلى أمير المؤمنين، ففعلا ذلك، فعلم سيدنا عمر بما كان من أبى موسى فقال: أكل الجيش أسلف أبوموسى أم أنه اختص ابنى أمير المؤمنين؟، قالا: بل اختص ابنى أمير المؤمنين، فقال عمر: إذًا آخذُ المال وربحه جميعًا، فسكت عبدالله، وقال عبيدالله: يا أمير المؤمنين، ماذا لو خسرنا ونقص المال؟، قال: كنت آخذ المال الذى سلمكما أبوموسى، قال عبيد الله: فينبغى أن يكون الربح لنا وليس لبيت المال، فتحير عمر، فقال أحد الصحابة: يا أمير المؤمنين، ماذا لو جعلته قَراضًا «مضاربة»؟، قال: قد جعلته، فجعل بيت المال بمنزلة رب المال فى التجارة، وأخذ له نصيبه من الربح مع رأس المال.
وهذه الشراكة يغفل عنها كثير من الناس، مع أنها شراكة مرنة تراعى تفاوت الخبرات والقدرات، وتحل مشكلة طرفيها، بتمكين رب المال من استثمار أمواله، وتمكين العامل من التجارة لغيره مما يرجى معه الربح. وعلى الرغم من أن الشريعة لم تتدخل فى تحديد نسبة الربح التى يستحقها كل طرف من أطراف المضاربة، بل ما تراضيا عليه عند الاتفاق هو أساس القسمة بينهما، فقد وضعت الشريعة ضابطًا مهمًا يضمن الرقابة الذاتية والاجتهاد لتحصيل أكبر قدر من الربح، حيث جعلت المستحَق لكل طرف نسبة مئوية «50 أو 40 أو 30 %»، أو غيرها من النسب أو المقادير المتفق عليها كالنصف أو الربع أو الثلث أو نحو ذلك، ولم تجز اشتراط مبلغ ثابت مقطوع كألف جنيه أو أكثر أو أقل، وإنما اشترطت الشريعة عدم ثبات نسبة الربح؛ لأن ثباتها قد يظلم أحد الطرفين، فإذا ربحت المضاربة كثيرًا أخذ المشروط له مبلغ ثابت مقطوع جزءًا ضئيلًا من الربح، بينما يأخذ الطرف الآخر أضعافه عدة مرات، أما إذا لم تربح المضاربة إلا الألف الذى سيأخذه العامل، فلن يأخذ شريكه شيئًا، وهذا بخلاف النسبة المئوية؛ فلو ربحت المضاربة جنيهًا واحدًا مثلًا أخذ كل واحد منهما نصيبه بنسبته المتفق عليها، وهناك علة أخرى من عدم اشتراط مبلغ مقطوع؛ حيث إن ذلك قد يؤثر على المهمة التجارية للعامل فى المضاربة.
وتتيح المضاربة لرب المال وضع ضمانات استثمار أمواله عند التعاقد، فله تحديد نوع النشاط التجارى الذى يمارسه العامل، كأن يشترط عليه الاستثمار فى مجال الأغذية أو الملابس أو الإلكترونيات، أو غيرها من الأنشطة التجارية المشروعة، وليس من حق العامل أن يتاجر بمال المضاربة فى نشاط تجارى غير الذى حدده رب المال، ولرب المال أن يشترط على العامل ممارسة النشاط التجارى فى منطقة معينة دون سواها، وله أن يشترط عليه التعامل الفورى ومنعه من التقسيط، وله منعه من السفر لجلب سلع من الخارج، أو نحو ذلك من الشروط التى يراها محققة لمصلحته ومحافظة على رأس المال، ومن حق المضارب أن يقبل هذه الشروط أو يرفضها، أما إذا لم يشترط رب المال شروطًا معينة عند التعاقد، انعقدت المضاربة مطلقة، بحيث يجوز للعامل أن يتاجر فى مال المضاربة كما يفعل التجار فى أموالهم، بما يراه محققًا لربح أكبر للمضاربة دون أن يعرضها لمخاطر غير معتادة فى مجال التجارة، كما أنه إذا انطلقت أعمال المضاربة دون أن يحدد الطرفان نسبة الربح المستحقة لكل طرف، فالأصل قسمة الربح مناصفة، ومتى انعقدت المضاربة أصبح العامل هو المسؤول عن النشاط التجارى على جهة الاستقلال دون تدخل من صاحب المال إلا للتأكد من التزام المضارب بالمتفق عليه من شروط عند انعقاد المضاربة .
والشراكة بنظام المضاربة يرجى معها إذا ما روعيت فيها الضوابط الشرعية تحقيق أرباح تفوق بكثير أرباح البنوك، التى يختلف الناس حول كثير من معاملاتها، بل إن المضاربة يمكن أن تحل كثيرًا من مشكلات المعاملات المالية فى مجال البيع والشراء، ولذا فقد بدأت بعض البنوك فى استخدام هذه الشراكة مع العملاء، حيث يكون البنك مضاربًا فى أموال مودعيه، فيكون لكل مودع نصيبه من الربح المحدد بالنسبة المئوية وللبنك الباقى، حيث يجوز شرعًا أن يضارب العامل الواحد فى أموال أكثر من شخص فى وقت واحد، ويقسم الربح بين الأطراف بالنسب المشروطة، مع مراعاة باقى الضوابط الشرعية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة